الحنين إلى الوطن في الشعر الإرتري

الحنين إلى الوطن في الشعر الإرتري

بقلم: أبو المعالي علي

أضرمت وجدي جوار أقلعت 

عن مراسيها عويلا مثخن

وانثياﻻت حنيني اشتعلت 

أنجما بالسهد تغري اﻷعينا

بهذه الكلمات صور شاعرنا الكبير عبد الرحمن سكاب أحاسيسه تجاه الوطن ، تلك الكلمة الرنانة التي يتعشقها كل إنسان سوي ، ويخفق قلبه كلما ذكر إسم وطنه شوقا وحنينا :

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما       أطار بليلى طائر كان في صدري

إن مدلول كلمة الوطن في أغلب المعاجم اللغوية يعني المنزل الذي يقيم فيه اﻹنسان ، وهو موطن الإنسان ومحله. يقول رؤبة ابن العجاج :

كيما ترى أهل العراق أنني

أوطنت أرضا لم تكن من وطني

لو لم تكن عاملها لم أسكن

والجمع أوطان ، وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها .

والموطن هو ميدان المعركة وساحة النزال ، وجمعه مواطن ، ومنه قوله تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) .

وقد تطور مفهوم الوطن أو المكان بتطور اﻹنسان وتقدمه في الحياة ، فبعد أن كان محصورا في ديار المحبوبة وآثارها والحنين إليها ، ووصف اﻷطﻻل والدمن :

لخولة أطﻻل ببرقة سمهد    

تلوح كباق الوشم في ظاهر اليد

ثم تطور إلى أن شمل كل ديار القبيلة ومراعيها ومحمياتها ، وكانت العرب في الجاهلية لشدة تعلقهم بديارهم وحبهم لها يأخذ أحدهم حفنة من تراب قريته في أسفاره الطويلة ، وكان يشتم هذا التراب كلما اشتاق إلى أهله ووطنه ، ويقبله ويعتقد أنه يخفف عليه آﻻم الغربة .

ومن العادات التي كان يمارسها أهلنا في إرتريا في هذا الجانب كما حكاه لنا أجدادنا اﻷوائل أنهم كانوا يأخذون التراب من أثر المسافر ، ويعتقدون أنه سيعود ما داموا يحتفظون بهذا التراب . ومما يذكر في هذا المجال قول الشاعر محمد مهدي الجواهري في مطلع قصيدة عن مدينة دمشق:

شممت تربك ﻻزلفى وﻻملقا     وسرت قصدك ﻻخبا وﻻمذقا

فكان قلبي إلى رؤياك باصرتي    

حتى اتهمت عليك العين والحدقا

وسرت قصدك ﻻ كالمشتهي بلدا      لكن كمن يتشهى وجه من عشقا

و الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فارق مكة قال فيما يروى عنه : ( ﻷنت أحب بلاد الله إلي ولوﻻ أن قومك أخرجوني ما خرجت منك ) ، وعندما رأى حنين أصحابه إلى مكة وشوقهم لها حتى قال قائلهم :

أﻻ ليت شعري هل أبيتن ليلة        بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة    

وهل يبدون لي شامة وطفيل

فقال صلى الله عليه وسلم :( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها ...) .

ثم إن اﻹسلام حرص على أن تكون المواطنة حق للجميع في كل بلاد اﻹسلام بغض النظر عن أعراقهم وأصولهم التي انحدروا منها ف ( سلمان الفارسي منا آل البيت وبلال الحبشي سيدنا ... ) .

وإذا كان المكان أو الوطن في القديم كما يقول جاسم محمد الجاسم في كتابه اغتيال اﻷماكن القديمة : ( قد وفاه الشعراء القدماء حقه إذ شغل مساحات واسعة في شعرهم . وقد عمر المكان بالمشاعر الإنسانية فعندما يرحل الحي ... يتداول الشعراء  الديار واﻷطلال واﻷرواح والديم ، فيمتلئ المكان بعواطف إنسانية تستنطقه )

منازل قوم حدثتنا حديثهم

ولم أر أحلى من حديث المنازل

وقول اﻵخر :

فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها

أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاسلَمِ 

وإذا كان الشاعر القديم مرتبطا بالمكان وله بقية من رسوم وأطلال ، يتعلل بها ، يهمس لها ، يناجيها ، يستوقف لها صاحبه ويبكي ويستبكي فيها

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا     

قل وصيكما ثم ابكيا حيث حلتي

 فهل يا ترى توفرت ميزة المكان للشاعر اﻹرتري حتى يقف ويستوقف؟ وهل توفرت لهم الظروف التي توفرت لغيرهم من شعراء العالم الذين عاشوا في كنف أوطانهم أحرارا في شعرهم وأحرارا في أنفسهم؟

لو رجعنا إلى بدايات الشعر العربي في إرتريا أو قل بدايات الوعي الوطني للإنسان اﻹرتري لوجدنا أن إرتريا كانت ترزح تحت نير الاستعمار البغيض ، فلم يكن للشعراء الذين هم أكثر الناس شعورا بالحرية وإحساسا بها ، لم تكن الحرية فيما يقولون أو يكتبون ولذلك نجد الشعراء في إرتريا قد انقسموا إلى فئتين :

اﻷولى : لشعراء الذين كانوا في إرتريا ولم يغادروها ، وهؤﻻء نجد الكثير منهم لجأوا إلى الشعر الرمزي ، فأصبحت كتابتهم عن المحبوبة الوطن والتغني بالمسميات الرمزية التي يتخفون وراءها ، حتى ﻻ تكشفهم عصابات الكوماندوز الذين كانوا  يحصون عليهم أنفاسهم وكلماتهم ، وهذا تمثل في كثير من كلمات اﻷغاني التي ظهرت في جيل الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، ومن شعراء هذه الفئة الشاعر الكبير محمود لوبينت  الذي يخاطب الوطن في عيون العصفورة ويقول :

عيناك سفر ....بدون إياب

عيناك محن وبقايا ألم

وشظايا حلم ورفات وطن

بمناف ترفع أعلاما ﻷي وطن

وتعدلنا كشوف حساب

وتمنحنا.. جواز سفر

وأمنية بحسن مآب

إلى أن يقول

عيناك أفق

عيناك قفص

فإﻻم ستبقى العصفورة

تحلق دوما مقهورة

في أفق أضيق من أي قفص

 وهاهو الشاعر لوبينت في قصيدة أخرى بعنوان ( كل شيء جائز ) يستنطق اﻷشياء واﻷشياء في صور رمزية عذبة ، كأنه يصور لنا كيف قامت الثورة اﻹرترية بعنفوانها وثبات رجالها ، حتى كادت أن تحقق الحرية في وقت مبكر من عمر الثورة ، ثم كيف انهارت الثورة وتلاشى معها حلم الاستقلال بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى ؛ بسبب الانشقاقات التي تاهت بالثورة عن مسارها الصحيح .

ربما كانت سحابة

أمطرت من غير قصد

دون برق أو رعود

فجرت في اﻷرض أشواق الوجود

وتوارت ...

بعد أن أحيت ما أمات الصيف فينا

وتلاشت في اﻷفق

كل شيء جائز

ومن هؤﻻء أيضا من رفع عنوان التحدي والصمود ، مثل الشاعر الفذ أحمد محمد سعد الذي كتب قصيدته أنا باق والتي منها قوله:

أنا باق

هنا أرضي وتاريخي وأمجادي

هنا جذري هنا داري وميلادي

ولن أرضى بليل السجن في وطني

نداء اﻷرض إنشادي

أنا قدر وعاصفة تصب النار في خصمي وجلادي

أنا ماض إلى دربي وإن مت

سيحمى الدار أوﻻدي

الثانية : الفئة الثانية من شعراء بلادي هم الذين ضاق عليهم الوطن،  فخرجوا يبحثون عنه في دياجير اللجوء المدلهمة يودعونه والحزن يملأهم  والدموع تترقرق في عيونهم ، يبحثون عن شمس الحرية المسلوبة منهم في كل القطارات والمطارات ، فهذا الشاعر الكبير كجراي يواسي أصحابه وأحبابه ويشتكي من أمته التي لم تحركها مآسي الشعب اﻹرتري ، فهو هنا يسترجع المعني الذي قصده ذلك الشاعر العربي عندما هجا قبيلته بقوله:

قبيلة ﻻ يغدرون بذمة          

وﻻ يظلمون الناس حبة خردل

يقول كجراي:

أﻗﻮﻝ ﻟﺜﻠﺔ ﺍﻷ‌ﺣﺒﺎﺏ ﻻ‌ ﺗﺄﺳﻮﺍ

ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﺭﻥّ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺤﺰﻥ ﻳﻘﻄﺮ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻲ

ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺤﺰﻥ ﻳﻮﻗﻈﻨﻲ

ﻳﻼ‌ﺣﻘﻨﻲ ﻳﻠﻮّﻥ ﺩﻏﻞ ﻣﺄﺳﺎﺗﻲ

ﺃﻧﺎ ﻣﻦ ﺃﻣﺔ ﺳﻜﺮﻯ ﺑﺨﻤﺮ ﺍﻟﺼﺒﺮ ،

ﺗﺨﺮﺱ ﺻﻮﺕ ﺁﻫﺎﺗﻲ

ﻭﺗﺨﻨﻖ ﻟﻲ ﻋﺒﺎﺭﺍﺗﻲ

ﻳﻤﺮ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺗﻠﻮ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻻ‌ ﺍﻷ‌ﺣﻼ‌ﻡ ﺗﺼﺪق

ﻻ ﺭﻛﺎﻡ ﺍﻟﻬﻢ ﻳﺴﻘﻂ ﻣﻦ ﺣﺴﺎﺑﺎﺗﻲ

ﻭﻳﺨﺠﻠﻨﻲ ﺍﻣﺘﺪﺍﺩ ﺍﻟﺼﻤﺖ ،

ﻟﻮﻥ ﺍﻟﺼﻤﺖ ،

ﻋﺮﻱ ﺍﻟﺼﻤﺖ ﻓﻲ ﺟﺪﺏ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺎﺕ

ﻣﺎﺫﺍ ﻳﺎ ﺭﻓﺎﻕ ﺍﻟﺪﺭﺏ ﻣﺎ ﺩﺍﻣﺖ

ﺗﺰﻟﺰﻟﻨﺎ ﺭﻳﺎﺡ ﺍﻟﻘﻬﺮ ﻭاﻻ‌ﺣﺒﺎﻁ ﻓﻲ ﻋﻘﻢ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺎﺕِ

وها أنذا ﻛﻤﺠﺬﻭﺏٍ ﻳﺴﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻫﻮﺍﻩ

 ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﺟﻤﻮﻉ ﺍﻟﺴّﻔﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﻘﻄﺎﺭﺍﺕِ

ﻓﻴﺎ ﺷﻤﺴﺎً ﺗﻐﻴﺐ ﻫﻨﺎك ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ

ﺍﻟﻤﻤﺘﺪ ﻓﻲ ﺃﻗﺼﻰ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺍﺕِ

ﺃﺗﻮﻩ ﺃﻇﻞ ﺃﺑﺤﺚ ﻋﻨﻚ

إلى أن يقول:

ﻓﻴﺎ ﻭﻃﻦ ﺍﻟﻀﻴﺎﻉ ﺍﻟﻤﺮ ﻳﺎ ﻧﺼﻼ‌

ﻳﻤﺰﻗﻨﻲ ﻭﻳﻜﺜﺮ ﻣﻦ ﺟﺮﺍﺣﺎﺗﻲ

ﻣﺘﻰ ﻳﻨﺴﻞ ﻣﻮﺝ ﺍﻟﻀﻮﺀ ﻳﻐﺴﻞ ﺭﻣﻞ ﻭﺍﺣﺎتي

وهذا الشاعر أحمد سعد يبحث عن وطنه ، ويتساءل وينادي فرحة اللقيا أن تطل حتى ينسل منها موج الضوء الذي  تساءل منه كجراي ، ويشكو من وحشة الغربة وإستمرارها :

أين أنتِ يا بلادي

طال ليلي

ورحيلي

غيّر المنفى هوايا

ضيّع الهجر مُنايا

يا رفيقي

لا تسلني

أين ولّت كل هاتيك الأماني؟!!

فتعالي

يا عصافيرَ بلادي لنغنّي

فلعل اللحنَ يمحو

بعضَ آلام فؤادي

بيد أني رغم آلاف الصعابِ

لن أبالي بالعذابِ

بل سأمضي في طريقي

حاملاً نبض الشبابِ

وغدًا تحيا بلادي

حرةً تبني أماني الكادحينْ

فرحةَ اللقيا أطلّي

فجِّري النورَ بعقلي

طال ليلي

ورحيلي

وها نحن الآن وبعد ما يقارب النصف قرن من رحيل هذا الشاعر العملاق لم تتم فرحتنا بعد ، ومازالت أحلامنا مؤجلة ، بل تبلغ المأساة ذروتها عندما نرى صفحات التواصل تمتلئ بالتهاني والتبريكات ؛ ﻷن واحدا منا منحته إحدى الدول جنسيتها ، وهاهم شعراؤنا بل بلابلنا المغردة قد حرمت من دوحتها الكبرى ، وتشردت في أقطار اﻷرض المختلفة ، ومن هذه البلابل الشاعرة الرائدة شريفة العلوي والتي وافاها اﻷجل وهي تنادي:

أعيدوني ﻷحلامي

أعيدوني ﻷحلامي

أعيدوني

إلى وطن يمثل كل أفكاري

العتيقات

أعيدوني ..

أعيدوني إلى بلدي

ومنطلق الهويات

مكان فيه أشرقت

وأشرق قلب والدتي

وفيه أسرج الأنواء

من زمن الوﻻءات

أعيدوني إلى وطن

يقاتل فقره بالزهد والإيمان والصبر

أعيدوني إلى شعب

يوثق يومه بالبحر والفلك

ويرسو إليه فجرا

بات من أحلام أحرار

المدارات

أعيدوني

لكي ارتاح من عبء الملامات

لأبقى بين أيديكم كتاباً

يمنح القراء

أسرار الحكايات .

فهل بقي لجيل الشتات من يحفظ أسرار الحكاية ، نرجو ذلك وأملنا في الله كبير .

 

 

 
09-04-2016
Print this page.
http://www.al-massar.com