تونس الثورة المشهد – التداعيات – العبر / بقلم/ حسن سلمان

الفرعونية لغة اشتقت من جمع فعلين في العربية هما (فرع) والذي يدل على العلووالسمو والرفعة و(عون) ومنه اشتقت الإعانة والماعون والعوان وهي التي لها قبل ولها بعد فالبقرة العوان هي التي قبلها بكر وبعدها فارض ومن هذين الفعلين (فرع+عون= فرعون) وأما المعني  السياسي لفرعون فهو أعلى الهرم في السلطة ويحمل صفة الاستبداد والتي تتميز بالشدة والبطش وهي ظاهرة سياسية واجتماعية وعقدية كانت في كل العصور الإنسانية ولكن ارتبطت تاريخياً ودينياً بالحكام المستبدين في مصر والذي على رأسهم  فرعون موسي الذي أكثر القرآن من ذكره وقصته.

والظاهرة الفرعونية هي محاولة لمنازعة الله في أخص خصائصه المتمثلة في الآتي:-

(1) الطاعة المطلقة حيث لا تكون إلا لله ويريدها الفرعون لنفسه من خلال ادعائه الألوهية (ماعلمت لكم من إله غيري) وحقيقة التأله هو الطاعة المطلقة.

(2) الملكية المطلقة(السيادة) والتي لا يملكها على هذا الوجود إلا الرب، والفرعون يريد أن ينازع في ذلك من خلال إدعاء السيادة المطلقة على العباد والبلاد( أنا ربكم الأعلى) وكلمة الرب في العربية تعني السيد.

(3) الفردية المطلقة وعدم قبول الشريك في الحكم وهي صفة للإله الرب الخالق ويريد  الفرعون المنازعة في ذلك بحيث(لا يشرك في حكمه أحداً).

(4) التصرف المطلق دون أن ترتبط إرادته بإرادة أحد (فعال لما يريد) والفرعون لا يريد أن تحول دون تحقيق إرادته أي إرادة مهما كانت إمعاناً في المنازعة والتشبه بالإله.

(5) علوه عن المحاسبة والمساءلة (لا يسئل عما يفعل وهم يسألون) فالله متعال عن المحاسبة والمساءلة لأنه إنما يتصرف في ملكه وخلقه والخالقية تقتضي ذلك والفرعون يريد أن يتقمص هذه الصفة فيجعل من نفسه متعال عن المحاسبة والمساءلة .

ولو تأملنا كل طاغية عبر التاريخ وإلى يومنا هذا يحرص على هذه الصفات التي فيها تجاوز للحد البشري إلى حدود الربوبية والألوهية فقد وصف الفرعون بالطغيان وسمي بالطاغية ولذا لما أرسل الله موسى إلى فرعون قال له(إذهب إلى فرعون إنه طغى) فالفرعونية ظاهرة ترتبط بالطغيان المتولد عن الشعور الداخلي الكاذب الذي يتوهم فيه الطاغية أنه صاحب الملكية والطاعة والتصرف والتفرد المطلق دون مساءلة أو محاسبة من أحد في كافة شئون البلاد والعباد، وسواء سلك في ذلك الاسلوب المباشر لإدعاء الربوبية والالوهية أو حاول أن يستخف بالرعية فغطى هذا الإدعاء ببعض الأوضاع والمراسم التي لا تغير من واقع الأمر شيئاً .

وخلاصة القول إن الفرعونية تتأسس على السلطة المطلقة الناشئة عن الوهم الكاذب والتصور المغلوط للذات والآخر وبالتالي تتولد عن هذه السلطة المطلقة الفساد المطلق (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد) ولك أن تتصور ما يمكن أن تطاله السلطة حتى تتعرف عن مدى الفساد وكثرته.

من خلال هذه المقدمة المعرفية ندلف إلى الحالة التونسية وتداعياتها وماهي الدروس والعبر المستفادة  منها.

كانت نقطة البداية مع النظام التونسي بقيادة بن علي بتاريخ 7/11/1987م عندما انقلب بن على على الرئيس بورقيبة والذي كان جزءاً من أركان نظامه وأعمدته ولكن عند مجيئه رفع شعارات التغيير والإصلاح والتجديد وسمي عهده بالعهد الجديد وانتقد سياسات ونهج سلفه بورقيبه ولكنه لم يصمد طويلاً على شعاراته التي أعلنها فسرعان ما دخل في مواجهة مكشوفة مع كافة القوى الوطنية من إسلاميين وقوميين وشيوعيين وكانت النتيجة هي ضرب القوى السياسية المنافسة وتشريد قادتها وكوادرها وملئ السجون والمعتقلات من الأحرار والحرائر من أبناء تونس وكرس نظام الحزب الواحد وما يتطلبه ذلك من وجود أحزاب الديكور لزوم الدعاية وبذلك حول تونس إلى أكبر سجن في العالم العربي وفي ظل غياب الحريات والقوى السياسية والمؤسسات المعبرة عن إرادة الشعب تم اختزال الوطن كله في الحزب ليختزل بدوره في القائد والزعيم الذي بفقده يفقد  الوطن.

وبما أن احتكار السلطة وغياب المساءلة يؤدي إلى احتكار الثروة والتي غالباً ما تتكدس في أيدي حفنة من القائمين على الأمر والمقربين منهم منشأة في نهاية المطاف الطبقية المدمرة التي يحتل أعلاها المترفون من قادة النظام وفي قاعها المجتمع بشرائحه المختلفة الذي لا يأمن من خوف ولا يشبع من جوع ومن هنا ينشأ الغليان المؤدي إلى الانهيار وفقاً للقانون الإلهي العام قال  تعالى( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) وفي المشهد التونسي و أحداث ثورته الأخيرة كانت شرارة الإنهيار من الشاب بو عزيزي الذي فقد الأمل في الحياة وتحطمت طموحاته وأشواقه ولم ير إلا طريقة واحدة للتعبير عن مشكلته وهي الخلاص الذاتي من هذا العالم الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ولا ينهض لنصرة مظلوم  ولا ينتشل عاطلاً عما هو فيه من التردي المعيشي فأراد الإشهار عن قضيته بأسلوبه الخاص الذي نسأل الله له الغفران والرحمة ولكن بالتأكيد استطاع أن يفعل ما لم تفعله جموع من الجيوش العسكرية والسياسية والمدنية وقد وهب الحياة لشعبه وأمته من خلال موته فكانت بداية ساعة الإنهيار.

تداعيات الحدث:-

شاهدنا جميعاً كيف كانت ردة فعل الطاغية  حيث لجأ إلى الاسلوب التقليدي بالبطش والقمع والإرهاب الذي ظل يمارسه لسنوات طويلة ولكن كانت المفارقة أن الشارع لم يزده البطش إلا غلياناً ولهيباً وتوسعاً في ساحة المواجهة مع الطغيان فأتجه الطاغية إلى إلغاء الخطابات التي جمع فيها بين الترغيب والترهيب من خلال الوعود بتخفيف المعاناة وتخفيض الأسعار وزيادة فرص التشغيل مع التلويح باستخدام القوة للخارجين عن القانون والاتهام بأن هنالك مكراً كباراً يدبر بليل من بعض الملثمين الإرهابيين وهي شنشنة نعرفها من الفراعنة قديماً حكاها لنا القرآن الكريم في قوله تعالى(إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) ولكن سرعان ما تحولت بوصلة الشارع من قضية العطالة والتشغيل إلى قضية استرداد الكرامة واستعادة الحرية والإنتقام للمظلوم من الظالم وكان وقودها هذه المرة خطاب الظالم نفسه والذي بدى في أخر خطاب له بثوب الذل والعار والمسكنة والصغار يستجدي الشعب المقهور والمنهك من سنوات حكمه البائسة ليعلن لهم بأنه قد فهم الدرس(أنا فهمتكم-أنا فهمتكم ) حيث أدرك الحقيقة  الغائبة أو المغيبة عنه بفعل بعض الأطراف من حوله -حسب زعمه- متوعداًَ بأنهم سيتعرضون للمساءلة والعقاب ومطالباً شعبه بإمهاله فقط ليكمل فترة رئاسته الحالية إلى سنة 2014م معلناً وبالصوت الجهيرأن(لا رئاسة مدي الحياة- لا رئاسة مدي الحياة) إنها لحظة عجيبة وغريبة حيث ذهب عنه ما كان يجد من غطرسة وكبرياء وتبدى له الفهم فجأة بعد أن طار عن راسه شيطان الغرور المكلف بحجب الحقيقة ولتأتي اللحظة التاريخية التي يطوى فيها الزمان فيتوافق فرعون تونس مع فرعون ذاك الزمان عندما ادركه الغرق فقال(حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنواسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية  وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون) وما أهلك الطغاة إلا الغفلة التي إذا انكشفت أدرك الطاغية حقيقة خصائصه البشرية من ضعف وفقر وخوف ورجاء كما أدرك في ذات الوقت قوة الشعب المقهور الذي ظل يئن تحت سياط الجلاد دون حراك مؤثر حتى كان هذا الضعف الشعبي مانعاً للطاغية من الفقه والفهم الذي لم يأته إلا بعد ظهور قوة الشعب قال تعالى(قالوا ياشعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً) وفي ذات الوقت أدرك الشعب قوته وقدرته أمام الطاغية وتكشفت لهم بشرية الطاغية وضعفه وأنهم لو كانوا يعلمون ذلك ما لبثوا في العذاب المهين وهنا ندرك أن كل طاغية يمر بثلاث مراحل في حكمه، الأولى: وهي التمسكن حتى التمكن من خلال الشعارات البراقة والوعود الكاذبة والأماني الزائفة و المواكب والمسيرات المضللة، والثانية:وهي الاستكبار والعلو والفساد غير المحدود في كافة المجالات والذي تتولد معه مشاعر البغض والكراهية والغليان الممهد للبراكين الثورية والانهيارات المجتمعية، والثالثة: النهاية المؤلمة والتي غالباً ما تختم بالذل والصغار والهروب من الأوطان أو الانتقال من القصور إلى القبور وهذا ما نخرج به من مشهد التجربة التونسية وتداعياتها- كما أن قراءة التاريخ تؤكد ذلك – وانتهى المشهد التونسي بهروب الطاغية بتاريخ 14\1\2011 وترك وطنه وشعبه يلقى مصيره تحت ضربات عصابات الطاغية وزبانيته ليعيثوا في الشارع التونسي قتلاً وإرهاباً منقصين بذلك فرحة رحيل الطاغية وصارفين لأنظار الجمهور من الحرية إلى الأمن في حيلة ماكرة أدخلت البلاد والعباد في نفق التسوية الظالمة التي ضحت بالدكتاتور في سبيل استمرار الدكتاتورية ونهجها لتجعل من بقايا المافيا للزعيم المخلوع عناصر حاضرة في العملية السياسية بل تقود مسيرة التحول نحو الحرية في مشهد لا يكاد يصدق ولا يطاق لولا أنا رأيناه بأم أعيننا ولله في خلقه شئون.

ويبقى السؤال الأهم في الحدث التاريخي عن ما هية العبر والدروس المستفادة من هذا المشهد الرائع في زوال الدكتاتورية ونهاية الطغيان ومدى إمكانية الثورة الشعبية في تونس أن تكون ثورة ملهمة للشعوب تزودها بروح الحرية والكرامة والإباء أم أن الثورة معرضة للإجهاض وتضحياتها قابلة للسرقة وبالتالي تطويها صحائف النسيان كما طوى غيرها من البلدان والعمران.

عبرة الحدث:-

وهنا نجمل في سطور معدودات أهم الدروس والعبر المستفادة من الحدث في النقاط الآتية:-

  1. ضرورة إدراك الحقيقة الإيمانية أن الملك والسلطان الحق والباقي هو لله وحده في هذا الكون والوجود وكل ملك وسلطان دون ملكه فهو منحة من الله لمن شاء من عباده ابتلاءً واختباراً في سياق الزمان والمكان المحدد لينظر بعد ذلك ما هم عاملون من صلاح أو فساد والصالحون يتصرفون في السلطة بهدايات الوحي وإرشادات العقل وواعظ الضمير وحكمة التجربة وشعارهم قوله تعالى(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)وقوله تعالى على لسان سليمان النبي الملك (هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) كل ذلك مع إدراك أن إيتاء الملك ونزعه من الله لقوله تعالى(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير).
  2. أن الملك والسلطان دول لا يستقر على حال بل دائم التقلب من حال إلى حال( وتلك الأيام نداولها بين الناس) وأن ليل الظالمين مهما طال وأحلولكت ظلماته فلا بد من بزوغ فجر الحرية والكرامة وإن إمهال الله للظالمين لا يعني إهمالهم حيث يملي لهم فترة من الزمان حتى إذا جاءت ساعة النهاية فإن الله أخذه أليم شديد فكم راينا من نهايات لطغاة ملأوا الأرض ضجيجاً ثم صاروا إلى مزبلة التاريخ وكلنا شاهدنا الشاه يخرج طريداً من بلده والامبراطور هيلي سلاس يقتل شر قتلة ومنقستو هيلي مار يام يتجرع كؤوس الهزيمة وهو يري جيوشه تتهاوى ثم يتسلل لواذاً إلى دولة إفريقية متمتعاً بحق اللجوء السياسي وهو تخنقه العبرة وليكون لمن خلفه عبرة وغيرهم كثير قال تعالى(فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وماكان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون) وخلاصة الأمر أن عوامل واسباب النهاية متعددة والنتيجة واحدة وهي الزوال وترك الأوطان وما فيها من نعم وجاه وسلطان قال تعالى(كم تركوا من جناة وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً أخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) .
  3. أهمية معرفة قوانين الوجود الإنساني وكيفية التحولات في هذا الوجود وذلك أن عملية التغيير ترتبط بقوانين الأسباب والمسببات وأن لكل فعل  رد فعل مقابل ولكن الأهم في معادلة التغيير التي تحكم حركة الوجود الإنساني أن التغيير ينبع من الذات ويبدأ من النفس  وأن زوال النظم الطاغية يرتبط بحركة الشعوب وفاعليتها ومقاومتها قال تعالى(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فلابد لكل طاغية وفرعون من موسى يبدأ الحركة الإيجابية ويشعل فتيل المقاومة والمدافعة لينتظر بعدها المعية والتوفيق الإلهي لأن في الحركة بركة ويقال ايضاً الحركة ولود والسكون عاقر وانتظار النصر من السماء دون بذل الجهد من أهل الأرض نوع من التواكل والوهم لا علاقة له بالتوكل والحقيقة هكذا جرت سنة الله في الوجود الإنساني( فهل ينظرون إلا سنة  الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) .
  4. وبناءً على معرفة قوانين التحولات السياسية يتحتم ضرورة التفريق بين عملية الانعتاق من الاستبداد والتحرير من الاحتلال حيث الخلط بينهما يؤدي إلى كوارث سياسية كبرى وذلك أن قوانين الجدل الداخلي في المجتمعات تقوم على قاعدة قبول العنف وحمل السلاح على العدوالمحتل وتتفق وتتوحد على ذلك انطلاقاً من فطرتها التي تأبى القبول بالأعداء الغاصبين  كما يمكن للشعوب أن تؤكد فاعليتها في مقاومة الاستبداد الداخلي من خلال المقاومة السلمية بكافة أشكالها وذلك من أجل تحييد وتعطيل السلاح الذي بيد القوة الحامية للطاغية من ابناء الشعب وهذا ما حدث في الحالة التونسية حيث أثمرت الثورة الشعبية  السلمية من النتائج ما لم تحدثه الثورةالمسلحة في الجزائر عندما انقلب العسكر عليها فور نجاح الإسلاميين في العملية الإنتخابية وهنا نشير إلى أن الشعوب تتوحد في حالتين وتختلف في إثنتين أيضاً فتتوحد في مواجهة الاحتلال الخارجي ومقاومة الاستبداد الداخلي سلمياً  انطلاقاً من الفطرة التي تأبى الظلم والضيم كما يحدث التباين والاختلاف عند المواجهة المسلحة واستخدام العنف للاستبداد الداخلي أو الاستناد على العدو الخارجي والزحف معه عند تغيير الأنظمة المستبدة وهذه شواهدها في واقعنا المعاصر كثيرة أبرزها العراق وأفغانستان  والصومال . فالثورة الشعبية السلمية أساس التحولات للنظم الاستبدادية الداخلية وبالتالي يلزم التعرف على قوانينها وآلياتها ومسالكها وأن غياب ذلك في تاريخنا السياسي جلب على أمتنا الكوارث والمحن لينتهي بنا المطاف في فقهنا السياسي إلى الجبرية أو القدرية السياسية والقبول بنتائج الاستبداد مهما كانت تأسيساً على تجربة حمل السلاح في مواجهة الاستبداد الداخلي والتي كانت من الناحية الواقعية  كارثية على مستوى الأمة فهل نعي الدرس  فكل من ثورة تونس والثورة في إيران عندما تم تحييد سلاح الطاغية واستعطاف حملته ليرتد على الطاغية أخيراً ويتم التعانق في نهاية المطاف بين قوة الجيش وقوة الشعب حتى يكون السلاح حامياً للأوطان لا للسلطان ما أجمل هذا المشهد الرائع حينما راينا الجندي التونسي يعانق المدنيين ويحييهم في لوحة نادرة الوجود في ظل الاستبداد.
  5. الظلم مؤذن بخراب العمران ،هكذا قال العلامة ابن خلدون في مقدمته والاستقراء الشرعي لنصوص الكتاب وتتبع وقائع التاريخ يؤكد أن أعظم ما يؤدي إلى الانهيارات المجتمعية والنظم السياسية هو سريان الظلم وتغلغله في المجتمعات ولذلك جاءت كل الشرائع متفقة على تحريم الظلم ومؤكدة لوجوب العدل لأنه لا صلاح للدنيا ولا قوام لها إلا بالعدل وأن العدل مع الكفر أبقى للنظم السياسية من الظلم مع الإيمان لأن الكفر متعلق بالله تعالى وحسابه مؤجل في الآخرة غالباً بينما ظلم العباد معجل الحساب فيه في هذه الدنيا كما أن الدنيا قوامها على العدل فلا تكون الفاعلية والإبداع والإنجاز في العمران إلا في ظل شعور الإنسان  بالعدالة و الكرامة والعزة والحرية  والظلم مما تأباه النفوس السوية ولذا يؤدي وقوعه للتراكمات السالبة والغليان الداخلي ثم الانهيارات والفلتان الأمني وهذا ما نشاهده في كافة الشعوب التي تحكمها الأنظمة الظالمة قال تعالى عن فرعون (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).
  6.    من الحقائق المسلمة أن قوة الطاغية وجبروته واستبداده لا يكون إلا بسبب ضعف الشعب أو قابليته للاستعباد والاستبداد وإلا فإن الطاغية في حقيقة أمره ضعيف ولكنه يستند في قوته إلى من شكلوا له رافعة يتكأ عليها من الجنود والأتباع من كتاب ومثقفين ورجال إعلام ومال ورجال دين باعوا آخرتهم بدنياهم ممن سكتوا عن باطل الطاغية وإلا لما كان للطاغية وجود فهل يصح القول بناءً على ذلك بأن عبوديتنا للطاغية وقبولنا له وطاعتنا له هي عبودية وطاعة وقبول اختياري وليس اضطراري؟ وبالتالي متى ما أردنا الحياة في أجواء الحرية والانعتاق من رقة العبودية كان لنا ذلك؟ وحينها يصح أن نردد مع ( ابو القاسم الشابي )  التونسي قوله :

إذا الشعب يوماً اراد الحياة - ----- فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي    --------- ولا بد للقيد أن ينكسر

ومن يتهيب صعود الجبال -----  يعش أبد الدهر بين الحفر

وقد راينا كيف أن الشعب التونسي الذي عاش في الظلم والاستبداد سنوات عجاف  فجأة قد تحول إلى ثورة عارمة مستنداً إلى قوة الحق في مواجهة حق القوة ليسقط أعتى دكتاتور في العالم العربي ويعرف أنه أقوى من الطاغية بكثير وكفى بذلك عبرة .

  1. أخطر ما يقوم به الطاغية ويسعى له جاهداً هو اختزال الوطن في شخصه وارتهانه له فيبقى الوطن مرهوناً ببقائه ومهدداً في غيابه وذلك من خلال ضرب مؤسسات المجتمع السياسية والمدنية وإضعاف مؤسسات الدولة والتفتيت المجتمعي والتفاوت الطبقي والقهر والكبت  النفسي والسياسي وتحطيم الإرادة وتكريس مفهوم العجز في مواجهة السلطة هذا ما أفادته التجربة التونسية حيث تبدت الثورة في بداية أمرها مكشوفة عن كل غطاء سياسي وكان الشعب في مواجهة أجهزة القمع والإرهاب دون وجود وسيط سياسي إلا ما كان من دور الاتحاد التونسي للشغل الذي ظل صامداً في موقفه ومتمسكاً بمطالبه الاجتماعية ولكن بقية القوى السياسية لم يكن لها الدور الابرز في بداية الأمر إما لحرصها على أن لا يستغل الطاغية وجودها فيضرب الثورة في مهدها أو لأنها منهكة وضعيفة ومبعدة وهذا ما عمل له الطاغية لسنوات حتى لا تقوم بدورها في قيادة شعبها ومجتمعها ولولا انحياز مؤسسة الجيش وممارسة الضغط على الرئيس وعدم قبوله للنزول إلى الشارع  لقمع المواطنين لكانت التضحيات كارثية والفاجعة أكبر فقد رأينا بعد هروب الطاغية كيف أن الأجهزة الموكلة بحماية الشعب تحولت إلى أجهزة تخويف وإرهاب وإخلال بالأمن وما فيا مكلفة بالترويع وعصابات نهب للأموال لتؤكد لنا جميعاً أنها في حقيقة الأمر أجهزة لحماية الطاغية وفي خصومة دائمة مع الشعب وأنها تتكسب وتتغذى من دمه ليكون الشعب بعد ذلك فريستها المطلوبة وهذا ما نقلته شاشات التلفزة لكل العالم.
  2. تتأسس شرعية الطاغية  ووجوده على منطق القوة لا قوة المنطق وعلى التواصل بحبل الخارج والقطيعة مع حبال الداخل بكل مكوناته الشعبية وهذا شأن كل النظم المستبدة فمتى ما قامت ثورة في الداخل تقطعت حبال الخارج الباحثة في كل حين عن مصالحها لأنه في عالم السياسة ليست هنالك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة ولكنها المصالح وهذا ما حدث مع الطاغية في تونس فلحظة سقوطه تبرأ منه الحلفاء ورفضوا استقباله وعائلته وأعوانه ومع سقوطه سقطت كافة الأقنعة الزائفة التي يتخفى من ورائها الغرب كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان  فقد رأينا أمريكا والدول الأوروبية لاذت بالصمت والطاقية يمارس القمع والترويع ضد شعبه وذلك ترجيحاً لمصالحها التي غالباً ما تتراجع منظومتها القيمية عند التعارض معها حتى إذا ما انهار الطاغية أمام الشعب الأعزل خرجت علينا بتصريحات خجولة وإن كانت مفيدة في درس العبرة وهكذا تسقط الاقنعة الزائفة وتنهار التحالفات المصلحية أمام درس تونس الثورة.
  3. برهنت لنا ثورة الشعب التونسي حاجة الثورات الشعبية إلى بلورة رؤية ومعالم طريق سياسية يتم من خلالها تأمين مكتسبات الثورة من الضياع والسرقة وهو من الدروس الهامة جداً في الحدث التونسي حيث أنجز الشعب مهامه كاملة في مواجهة الطاغية وزبانيته ولكن بعد سقوطه رأينا كيف التف أعوانه على الوضع  السياسي ليشكلوا حكومة الثورة ويبقوا على ما يمكن الإبقاء عليه من أجهزة النظام القمعي وبتحالف إقليمي وتواطؤ دولي في محاولة جادة لإجهاض مكتسبات الثورةالشعبية وتطلعاتها وأشواقها في سابقة لا مثيل لها في عالم الثورات ويبدو أن السبب الرئيس في ذلك هو أن القوى السياسية لم تكن مواكبة للأحداث بالصورة المطلوبة وقد فاجأتها بحيث لم تتمكن من الإتفاق على رسم الرؤية السياسية لمستقبل البلاد بعد رحيل الدكتاتور وبالتالي أحدث ذلك فراغاً وإرباكاً للقوى الشعبية فهل ينجح الشعب التونسي في الحفاظ على بوصلة الثورة حتى نهاياتها  أم أننا أمام حالة جديدة في سرقة الثورات فتصدق مقولة أن الحرب يخطط لها الأذكياء ويخوضها الشجعان ويحصد نتائجها الجبناء هذا ما ستجيب عنه الايام !!!.
  4. وأخيراً هل ستكون  الثورة التونسية ثورة ملهمة للشعوب المستعبدة فتكون بداية لثورات تتواصل في كل الأنظمة التي سامت شعوبها سوء العذاب أم أنها ستكون حدثاً محلياً معزولاً؟ عموماً البعض يفكر الآن في احتواء الثورة ووأدها في مهدها ويخشى من أن تتحول إلى ثورة ملهمة تجتاح العالم العربي والإسلامي ولا شك أن التحديات كبيرة ولكن:

                  إذا الشعب يوماً أراد الحياة -------فلا بد أن يستجيب القدر                                   

 

 

 
18/01/2011
Print this page.
http://www.al-massar.com