استلهاما من ثورة تونس المجيدة والتي أوقد شمعتها محمد البوعزيزي وبأغلى ما يملك , رحمه الله فاجأ الشعب المصري شعوب العالم بثورة مشهودة , بيضاء ناعمة وذات مضامين وأساليب غاية في التحضر لا توقع قتلى ولا جرحى.
فالنظام المصري البائد كغيره من أنظمة الاستبداد والطغيان , وبقراءة خاطئة لحالة الصمت والسكون الشعبي العابر , كان يتباهى بفخر وقبيل أسابيع من سقوطه المدوي بأن مصر ليست تونس , وإذا ومن حيث لا يحتسب وفي لمحة خاطفة وجد نفسه أمام عاصفة شعبية ساحقة , سرعان مازلزت الأرض من تحت أقدامه واقتلعت نظامه من جذوره وإلى الأبد .
1. للوهلة الأولى كانت تبدو المواجهة التي قرر الشعب المصري خوضها ضد نظام مبارك غير متكافئة , فشعب أعزل من كل شيء سوى إيمانه العميق بعدالة مطالبه ونبلها , ويقينه الراسخ بمشروعية قضاياه وإنسانيتها , وفي يده وسائل بسيطة سلمية وحضارية على درجة عال من التهذيب والانضباط , يواجه بها نظاما مدججا بكل أشكال التدمير وألوان القتل , وله قدراته الفائقة على البطش والتنكيل واستعداده الكبير لزرع الموت , إلا أن مجريات الأحداث على الأرض وما انتهت إليه المواجهة كانت مذهلة , حيث أكدت وبكل أدوات التوكيد التي عرفتها لغات العالم المختلفة , أن الشعوب وتحت أي أحوال أو ظروف قادرة على إحداث الفارق وبشكل هائل وجذري , مبرهنة بذلك على إمكانية التخلص من الأنظمة الحديدية المستبدة , وبأساليب سلمية وحضارية وبأقل جهد وكلفة , متجاوزة بذلك مفاهيم سادت لفترات متطاولة من الزمان , مفادها أن الثورات ضد الطغاة لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت مدعومة بثورة من داخل القصر أو انقلاب عسكري أو بقوى خارجية .
بداية كان الشعب المصري يدرك أن الحرية لا تعطى والحقوق لا توهب وإنما تنتزع , وكان يدرك أيضا أنه أمام مواجهة تمس سيادته وإرادته ,وبالتالي فهي مواجهة تتطلب المزيد من الصبر والصمود , وتستحق كل الثمن والتضحيات , ونظام مبارك ومهما يفرط في البطش والتنكيل المؤلم والقاسي , فإن الشعب سيثبت بشكيمة أقوى ومراس أشد , أن إرادته لن تكسر وعزيمته لن تخور, بل إن قناعاته وتصميمه على فرض تحدياته على النظام المستبد وحسم المواجهة لصالح كرامته و حقوقه كانت كبيرة , وبشكل لم يتردد في إعلانها ومنذ اللحظة الأولى وعلى رؤوس الأشهاد أنه يريد إسقاط النظام الفاسد المتجبر الطاغي الذي لم تعد له شرعية سوى شرعية خدمة مصالح دول الاستعمار الحديث , والإسقاط هنا على عظمته يتجاوز مبارك ورموز نظامه ليطال الأفكار والبنية والقواعد والنظم والسياسات التي لم تفرز إلا واقع التسلط والقهر والاستبداد البئيس , ومن ثم فإنه أكثر تصميما وعزما على أن لا يتوقف بثورته الظافرة بإذن الله إلا عند محطة رحيل النظام والتخلص وإلى الأبد من تبعاته الثقيلة , وكان في الوعد الصادق والموعد الجميل , فاستحق احترام كل شعوب العالم , وتقدير شرفاءه وأحراره .
2. قاعدة ذهبية يكررها المفكر الإسلامي الكبير الدكتور عبدالكريم بكار حفظه الله في كتبه ومحاضرته ودروسه (كل شيء إذا همشته خسرته ) , فما التهميش إلا صورة من صور الظلم العديدة .
فالثورة المصرية كسابقتها التونسية لم تنشأ من فراغ , وهي بالطبع لم تكن من صنع الفيسبوك ,
فالنظام المصري البائد بيده لا بيد غيره صنع الثورة , صنعها بظلمه وجوره , صنعها بسياساته السياسية والاقتصادية الصفرية والتي خرج منها الفائزون , فائزون بكل شيء سلطة وثروة ( حاشية الرئيس وأقربائه وأصهاره ) , بالمقابل خرج الخاسرون منها , خاسرون بكل شئ , ( غالبية الشعب الذي يعاني الأمرين في توفير متطلبات الحياة الأساسية الغذاء والدواء والمسكن )
وسنة الله المضطردة جرت بأن الله قد يمهل الظالم لأجل معلوم يطول أو يقصر , لكن المآل حتما أنه لا يهمل حقوق المظلومين فوق أرضه وتحت سماءه .( بعزتي وجلالي لأنصرنك , ولو بعد حين ) .
الوزير الرشيد يحيى البر مكي، قال له بعض بنيه وهم في السجن وتحت القيود: يا أبتي أبعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذه الحال؟ فقال يا بني لعلها دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها، ثم أنشد يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة زمناً والدهر ريان غدق
سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دماً حين نطق
حين تصل الأوضاع إلى حد غير محتمل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا تتدخل المشيئة الإلهية كسنة ماضية لا تحابي أحد , ولا تستثني فئة , فمتى توافرت الأسباب حضرت النتيجة , و متى تكاملت الشروط وقعت العواقب , فتفشي الظلم ومصادرة الحقوق والحرمات وسيادة نهج التعدي وتغيب الحريات , والاستئثار بالسلطة والثروة وتحويل البلاد إلى ساحة مفتوحة لانتهاك حقوق المواطنين وإذلالهم بالقوة وبقانون الطوارئ والأحكام العرفية و إهدار كرامتهم بالجوع والقهر والحرمان والبطالة والعطالة , هي أسباب وشروط ومقدمات لتحريك سنن التململ والاحتجاج والممانعة والمقاومة فثورة .
صحيح قد تختلف الملابسات والظروف والمعطيات من قطر لآخر , وربما تتباين وتتباعد في صورها وشكلها , ولكن في كل الأحوال فإن الرئيسيين المخلوعين بن علي و مبارك لن يكونا آخر المطرودين أو المنبوذين .
3. النظام المصري كانت أمامه فرصا واسعة ومتسعا من الوقت لإجراء إصلاحات إختيارية بيده قبل أن تكلفه ثمنا فاضحا ( التغيير الجذري لنظامه ورموزه وسياساته ) , وكانت كل البدائل والخيارات متاحة أمامه للمراجعة الداخلية والتصحيح الذاتي ببذل جهود محسوسة تجاه لم شمل المجتمع وتقريب المواقف ووجهات النظر بين أطيافه المختلفة , فضلا على إجراء إصلاحات حقيقية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا , إلا أن النظام ولحسابات خاطئة آثر أن يتشاغل بتسويق فزاعات وهمية فارغة مبنية على معادلات بالغة الاختلال و السوء , إما الخضوع والخنوع لاستبداد النظام وقهره وظلمه , وإما تسلم الإسلاميين السلطة , وكأن الإسلاميين جنس من كوكب آخر لا صلة له بصلب الشعب ورحمه ؟ .
بل إنه وفي أوقات مضت كانت فرص تقديم وجبات صغيرة على شاكلة ترقيعات أو إصلاحات جزئية كافية لإرسال رسائل هامة , حتى لو حدد النظام بنفسه شكل الإصلاح وحجمه ومراحله , ولكن النظام وتحت قاعدة كل شيء كامل ومكتمل وتمام يأ فندم فوت على نفسه تلك الفرص النادرة , والتي أحسب أنه لامحالة نادم عليها الآن ساعة لا ينفع الندم .
تنازلات كبيرة وعديدة قدمها النظام القمعي وهو على شفير الانهيار المذل ، واحدا منها كان كفيلاً لو كان في موعده أن يزيل قدر من الاحتقان والتوتر, وربما كان قادرا على إكساب بعض التعاطف لتبرير تأجيل بعض الاستحقاقات الهامة .
التنازلات المتتالية التي قدمها النظام وهو على حواف السقوط , كان أجدر أن تقدم والنظام في قمة عنفوانه وصولاته , وقبل أن يصبح مادة للسخرية والتهكم والاستهتار.
الإصلاح والتغيير الاختياري في عالم السياسة قدر محتوم وقبل فوات الأوان , وإلا فإن المصير المحتوم لأي طاغية هو الطوفان الشعبي الذي يجعل من أكبر الطغاة صغارا, يتوددون للشعب وبكل مسكنة ومذلة , ويستجدوه بكل صغار وانكسار , فقط أن يسمح لهم – بالخروج الآمن والمشرف والكريم .
4. من أخص خصائص الأنظمة المستبدة التماهي في السلطة بمباهجها وبهارجها والتشبث بامتيازاتها حتى الرمق الأخير وبأي ثمن كان وبأي وسيلة كانت مشروعة أوغير المشروعة , وفي سبيل تلك الغاية يهون كل شيء الإنسان , الكيان , المقدرات , القانون , الأخلاق --- الخ ؟
والنظام المصري المنبوذ خير من جسد ذلك , وفي سبيل إنقاذ نظامه من الانهيار لم يتورع النظام في استخدام كل الطرق الملتوية والأساليب الرخيصة وغير الأخلاقية بشكل قد يحسده عليها – ميكافيلي نفسه –.
فالنظام وبعد أن استنفد كل أدوات القهر وأفتكها في عنف غير مسبوق ضد شعبه في أيام الثورة الأولى , والتي مع قسوتها فشلت في إخماد جذوة الثورة , وإجهاض أحلامها وكسر إرادتها , تحول النظام وفي سقوط أخلاقي وقانوني فظيع إلى عصابة بربرية , أجادت إثارة الفوضى والقلاقل والإخلال بالأمن والنظام بإتلاف وإحراق المؤسسات العامة والاعتداء على المواطنين العزل .
والأنكى من ذلك , إقدام النظام ودون حياء على الاستعانة بأصحاب السوابق والبلطجية وعتاة المجرمين في معركته الفاصلة ضد مواطنيه العزل ( والذي يفترض أنه حاميهم بنص الدستور الذي أقسم عليه , وحارسهم بنص القوانين التي تفرعت عنه ) وذلك بعد أن أطلق سراحهم من السجون ودفع بهم إلى سوح المعركة بعد تسليحهم بأدوات حرب موغلة في القدم (سيوف وخناجر وسياط , جمال وخيول وبغال وحمير ) عساها أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه الرصاصات المطاطية أو الحية , وربما تتحقق وعلى يد عصابات النهب والقتل والإجرام معجزة بقاءه على سدة السلطة ونعيمها ولو ليوم أو بعض يوم ؟؟ .
وعلى سنة المستبدين لم ينس الرئيس المخلوع , وفي سبيل الاستماتة والاحتفاظ بالسلطة أن يلعب على أوتار حساسة لها وقعها وتأثيرها البالغ لدى الشعب المصري ( التخويف بمخطط يستهدف مصر وزعزعة استقرارها وتدمير أمنها واقتصادها , و أن وراء الثورة أيد عابثة ومؤامرات خارجية ودسائس خفية وتواطؤ وتدخلات خارجية , و إنه لن يسمح لكائن كان التدخل في شئون مصر الداخلية ) , بل ذهب بعض زبانيته إلى تكرار الفزاعة المشروخة والممجوجة بتصوير الثوار بأنهم إسلاميون يقودهم أجانب، بل أميركيون وإسرائيليون؟ .
وحقا إن لم تستح ففعل ما تشاء , فالنظام الذي عاش وعلى مدى ثلاثون عاما في كنف الخارج واستمد منه كل مقومات البقاء والحياة , يتحدث الآن وقد بلغت القلوب الحناجر – وبدون حياء - عن التدخلات والمؤامرات ضد الوطن , وهو الذي فتح أبواب مصر وفضاءاتها السياسية والثقافية والأمنية لكل غاد ورائح ؟ وذاكرة الأمة ليست مشروخة حتى تعجز في استحضار أحداث غزة القريبة , وأهلها الأشاوس يموتون جوعا وقهرا , و العدو الإسرائيلي يمد بالغاز , و بثمن بخس دراهم معدودات ؟ , ( فالغاز لأعدائنا والموت لأبنائنا ) كما عبرت إحدى لافتات ميدان التحرير .
و حقائق التاريخ تؤكد أن الشعوب وفية إلى أبعد الحدود , وهي لا تخطئ في إصدار الأحكام , ولو أنها كانت تعلم لنظام مبارك قدر ضئيل من المواقف المشرفة تجاه القضايا الوطنية والقومية الكبرى لما كان جزاءه النبذ والنفي , فالأنظمة المستبدة التي تغلف بعض مواقفها بالعزة والكبرياء أثبتت الأيام أنها تجد من شعوبها كل التقدير, وما عودة صور جمال عبد الناصر لواجهة الهبات الشعبية في ميدان التحرير سوى خير شاهد لما أقول .
5. الثورة المصرية بتعبيراتها الحضارية والسلمية مثلت مدرسة في التحضر والانتماء والوطنية وعلى أكثر من أوجه .
مدرسة في التسامي فوق الحسابات الخاصة والحساسيات المفرطة والتناقضات الجزئية , لصالح القضايا الجوهرية الكلية الأكثر خطورة وتهديدا للوطن والمواطن .
ومدرسة في الإصطفاف والاعتصام والوحدة , و في حشد التنوع والتباين وإدارته بكل حنكة ووعي , شباب منتمي واللا منتمي , وشابات منقبات و محجبات و سافرات , ومسلمون وأقباط , وإسلاميون ويساريون , وأطفال وكهول , ونساء ورجال كلهم في صعيد واحد في صفوف متراصة ونفوس متقاربة وأشواق ممتزجة وشعارات واضحة وأهداف جلية ومطلب واحد ( التغيير لا شيء غير التغيير ) , وهو ما ساعد الثورة بالذهاب بأهدافها حتى نهاية الشوط , بداية من فيسبوك ومرورا بميدان التحرير وانتهاء بالعصيان المدني أمام المؤسسات العامة وختاما بإجبار الرئيس المخلوع حسني مبارك على النزول من عليائه وعناده وقبوله برفع راية الهزيمة والإستسلام .
ومدرسة في الثبات والصمود الجماعي والتضامن , وبشكل جعل من محاولات اختراقها وتشتيتها غاية في الاستعصاء , مع مابذل من ضغوطات وإغراءات من قبل النظام المصري والدول ذات السطوة وعلى رأسها أمريكا .
ومدرسة في الحب والانتماء لمصر, فالتاريخ سيخلد عاليا لحظة تشكيل الثورة للجان وتنظيم صفوفها لملء الفراغ الذي نتج بتخلي نظام مبارك عن مسؤولياته القانونية والأخلاقية بسحبه للقوات المختصة بحماية الممتلكات الخاصة والعامة , فتصدت الثورة لتلك المهمة بكل كفاءة وجدارة , ضاربة بذلك أروع الأمثلة في الانتماء , مؤكدة في ذات الوقت أنها الأحرص على الوطن والأكثر وفاء لإنسانه وموارده وحضاراته وتاريخه.
6. المراهنة على القبضة الحديدية والحلول الأمنية لاستمرارية الأنظمة وبقاءها على سدة السلطة ثبت أنه رهان خاسر وفاشل , فأحداث الحاضر القريب قبل أحداث الماضي البعيد كانت ساطعة الجلاء لا لبس فيها ولا غموض لمن أراد العظة والاعتبار , فإنه لا العنف ولا الإكراه كانا ضامنيين لإستمراية الأنظمة , و لا القبضة الأمنية كانت عاصمة من سقوطها .
فالنظام المصري كعادة الأنظمة الأمنية الاستبدادية المسكونة بهاجس التمسك بالسلطة والانفراد بها كان كل رهانه قائما على افتراضات خاطئة تتمثل في أن الضامن الأساسي لاستمرارية النظام وتأبيده هي إحكام القبضة على مقاليد السلطة بيد من حديد ونار, وإخضاع الشعب بالقسوة والشدة , ولتحقيق هذه الافتراضية الخاطئة فالنظام في حاجة إلى بناء منظومة أمنية باطشة , مسلحة بكل أدوات البطش , عليها بإحصاء أنفاس المواطنين ومراقبة تحركاتهم والعبث بحياتهم , مستغلة أبشع استغلال لقانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الخاصة , وعليه لا بد من أن تحظى أجهزة الترويع والتخويف وبمختلف أشكالها وصنوفها برعاية خاصة وبتهيئة أكثر ودعم وتمويل مفتوحين , وهو ماحصل فعلا على أرض الواقع حتى تمددت تلك الأجهزة رأسيا وأفقيا وبشكل فاقت عددا وعدة الجيش الوطني المعني بحماية الوطن كله .
ومع ذلك – وفي أول إختبار حقيقي لها – لم تستطع تلك المنظومة الأمنية بكل عددها وعتادها في منع تهاوي النظام وتمزقه شر ممزق .
7. مع أن المواقف الأولية للمؤسسة العسكرية كانت قد آثارت قدر من الشكوك والريبة , إلا أن تمسك الثورة بسلاح التظاهر السلمي كخط ونهج غير قابلين للانحراف والاجترار إلى خط العنف والفوضى مهما كانت حجم الاستفزازات والتحرشات والإستدراجات أكسبها ثقة الجميع , وأحرج المؤسسة العسكرية وجعلها أمام موقفين لا ثالث لهما , إما الانحياز لخيار الشعب باعتباره دالة ثابتة راسخة ودائمة , وإما حماية وحراسة النظام الفاسد أسوة بأجهزة القمع الأخرى , وهو مايعني الوقوف في المكان الخطأ .
موقف الحياد الذي تبنته المؤسسة العسكرية إبتداء مع أنه ساوى بين الجلاد والضحية والظالم والمظلوم خاصة في ظل تحول النظام إلى عصابة إجرام وترويع لا تراعي إلا ولا ذمة , إلا أنه كان موقفا هاما وبدرجة كبيرة لصالح الثورة , حيث أعطى حياد الجيش رسالتين مهمتين مفادهما أن المؤسسة العسكرية غير معنية بحماية النظام , كما أنها غير راغبة في الاصطدام بالثورة , ومضمون كلا الرسالتين يصب في مصلحة الثورة ويمثل لها دعما مهما لمسيرتها , فبدون الدعم من الجيش كان سيصعب مهمة الثورة ,وربما أدخل مصر كلها في مأزق لايعلم مداه إلا الله .
عموما برفض المؤسسة العسكرية أن تكون أداة طيعة للنظام وضد الشعب وإعلان إنحيازها لمطالبه المشروعة تكون قد كسبت الرهان , فبادلها الشعب الحب بالحب والود بالود .
8. من دروس ثورة مصر السلمية الحضارية أنها فضحت شعارات ومواقف ومصداقية كثير من الدول التي كانت تتغنى ليل نهار بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان , وتتشدق صباح مساء بدعم التحول الديمقراطي والوقوف مع مقتضياته .
فللمرة الثانية وبعد ثورة تونس تسقط الدول الغربية بما فيها أمريكا في اختبار المبادئ والمصالح حيث اختارت في الحالتين خلافا لما تدعيه من مبادئ وقيم الوقوف كعقبة كأداء أمام الشعوب وتطلعاتها بدفاعها المستميت عن أنظمة فاسدة مستبدة , وتقديم كامل الدعم لإنقاذها من الهبات والانتفاضات الشعبية .
فعلى مدى ثلاثة عقود لم تكتف الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا بمساندة ومسايرة نظام مبارك الفاسد وغض الطرف عن جرائمه وانتهاكاته لحقوق مواطنيه , والنهب المنظم لثرواتهم ومقدراتهم , بل تجاوزت ذلك إلى بناء وتسليح وتدريب منظومة القمع والتنكيل , وتأهيلها على أشد وأقسى أنواع البطش , مقابل ابتزاز سياسي أو خدمات أمنية هنا وهناك على شاكلة مايسمى مكافحة الإرهاب , ويتكرر المشهد ذاته في ليبيا ونظامه القمعي يرتكب مجزرة بشعة بحق المتظاهرين سلميا , ولا يتجاوز الموقف كالعادة خانة الاكتفاء بالتنديد الخجول , ومناصحة الاطراف كلها بضبط النفس ( بما فيها الجماهير المعتدى عليها ) , مراعاة للمصالح الاقتصادية والأمنية وعلى رأسها التعاون في ما أسموه مكافحة الهجرة غير المشروعة ؟ .
9. في زمان ويكيليكس وعصر الفيسبوك والتويتر واليوتيوب تحول الإعلام إلى أداة صانع وقائد للأحداث وليس كما كان في السابق مجرد وسيط ناقل للحدث , وهو ما أدى إلى تحول بعض القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية إلى مشاريع تغيير , تقود الشعوب على طريق المقاومة والممانعة .
الإعلام وبمختلف أصنافه أسهم وبقدر وافر في إزالة حاجز الخوف والرهبة من الأنظمة القمعية وساعد في تجاوز المحرمات واجتياز الخطوط الحمر التي ما أنزل الله بها من سلطان , وفي سبيل ذلك تخطى الإعلام الكثير من المسلمات والأعراف المهنية التي كان يتقيد بها في السابق ومنها الحياد , تماما كما فعلت وسائل الإعلام الغربية التي لم تبالي كثيرا بالهبات العربية , في الوقت التي أعطت مساحات معتبرة وتركيز أعلى للمظاهرات الإيرانية التي حدثت بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
في ثورة مصر لعبت وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية وفي مقدمتها – قناة الجزيرة - أدوارا محورية ومؤثرة في تنظيم وتوجيه ودعم الثورة , ولقد تنبه نظام مبارك لذلك الدور فسارع بإغلاق مكاتب قناة الجزيرة , وبدوره قدر الشعب المصري ذلك الدعم عاليا فحفظ لها الجميل , فتطور الإعلام تقنيا وبشكل غير مسبوق ساهم في حد و كبح جماح الأنظمة المستبدة تجاه شعوبها , حيث استطاعت شل نظام مبارك وجعلت يده مغلولة – فلم يستطع إسالة الدماء والإسراف في القتل كما كان يفعل من قبل , فالإعلام بمختلف أشكاله وصنوفه بات أداة رقابة صارمة يمكن الاعتماد عليه في الإثباتات الجنائية , منهيا بذلك حقبة زمنية كان إخفاء الجرائم بالتخلص من أدواتها سهلا وميسورا , ولا مجال لتكرار ذلك في عالم اليوم خاصة في ظل ذهاب الإعلام بخصوصية المكان , والعالم كله يتذكر كيف أن الفضائيات ومواقع الإنترنت واليوتيوب أتاحت له وبشكل واسع ودقيق فرص متابعة مشاهد الثورة المصرية بكل تفاصيلها وجزئياتها لحظة بلحظة ( صوتا وصورة ) .
فضلا على أن الإعلام بات وسيطا مهما لتبادل الدعم والتضامن بين الشعوب , حيث وجد الشعب المصري تعاطفا وتضامنا من قطاعات كبيرة من شعوب العالم , والتي نظمت مسيرات المناصرة والاعتصامات الداعمة لصموده وثباته على طريق الثورة حتى النصر .
ولم يعد الإعلام يفرض تحدياته على الأنظمة المستبدة فقط , بل تجاوز ذلك إلى المعارضة السياسية والمدنية , فقد أكد عمليا – كما في الثورتين التونسية والمصرية – انه قادر على قيادة المبادرات وتحريك الشعوب وتوجيهها دون المرور بمحطة الأحزاب وقوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني , فضلا على أنه عرى بعضها والتي ثبت أنها أقل بكثير من أن تملأ الفراغات , فهي غير جاهزة وعلى كافة الصعد , وهو ما يضاعف من مسؤوليات المعارضة بكل أطيافها ويضعها أمام تحدي كبير لتطوير خطابها وآلياتها وبرامجها .
10. مع أن في عرف السياسة لا استبعاد لفرضية إجهاض الثورات أو احتوائها أواستغلالها وتوظيفها خارج الأهداف التي رسمت لها , وكما أن الثورة كأي ثورة أخرى في مراحلها الأولى تمر بحالة – اللايقين والغموض وربما ارتباك - إلا أن المؤكد يقينا أن الشعب وبعد أن أعادت له الثورة روحه وحيويته وشموخه , بات أكثر وعيا وإرادة –من أي وقت مضى - لتصدي لمن يحاول سرقة جهوده وجروحه ودمائه .
فالشعب الآن وقد قال كلمته وانتصرت ثورته واستسلم النظام ورفع الراية , فإنه ( أي الشعب ) هو وحده من يملك هذه اللحظة التاريخية الباهرة , وبالتالي فإنه حقيقة لامجازا من يقرر مصيرها وقدرها ,فهو صاحب السيادة والقرار في تحديد ماهية يومه وتشكيل ملامح غده ورسم آفاق مستقبله الذي يعبرعن أفضل تطلعاته وأنبل أشواقه من ( دستور , ومجالس تشرعيه , وأجهزة مدنية ونظامية --- الخ ) , وإلا فإنه ( الشعب ) - في أهبة الاستعداد والجهوزية - ليكون في الموعد من جديد , حراسة لمكتسبات الثورة وحفاظا لمنجزاتها , وإزاحة لما يستجد من تحديات وعقبات , وما عودة الحشود المليونية إلى ميدان التحرير في جمعة النصر المشهودة أول أمس إلا توكيد على تلك الثوابت وترسيخ لها حتى تصل الثورة سالمة آمنة إلى آخر محطاتها بإذن الله
أخيرا يبقى التساؤل المشروع أين يقف النظام الإرتري الفاسد من هذه الأحداث التي تجري من حوله و قريبة من داره ؟ وهي أحداث وفق تشبيه أحد كبار مفكري العالم للثورة المصرية , أنها ثورة منطقة وليست ثورة شعب , وإرتريا جزء من تلك المنطقة تؤثر وتتأثر بما يجري فيها سلبا أو إيجابا .
بالطبع لن نتوقع من النظام القمعي استيعاب الحقائق التي أفرزتها أحداث الفترة الأخيرة وفي مقدمتها أن مرحلة ما قبل ثورة تونس ومصر شيء , وما بعدها شيء آخر, لأن المعهود عن النظام القمعي أنه لا يحسن التقاط الإشارات والدروس والعبر , فهو قليل الاكتراث بالأحداث والوقائع, وكثير الاستخفاف بالمطالب والمظالم , مع ذلك – لا أحسب – أنه يمكن أن يغمض عينيه ويصم أذنيه إلى ما لانهاية , خاصة في ظل التحلل الذاتي والانهيار الداخلي التي يشهدها باضطراد , وبدء تساقط الأنظمة المستبدة التي كانت تقدم له كل السند والدعم , زائدا على أن الأسباب والشروط التي أدت إلى تساقط الأنظمة كأوراق الخريف وافرة في نظامه القمعي , فضلا على أن الشعب الإرتري الذي يمتلك في رصيده تجربة ثورية بالغة الثراء وباذخة الشرف لن يكون استثناء في تطلعاته نحو الحرية والكرامة والإنسانية عن شعوب المنطقة , وشبابه لن يكونوا أقل إرادة وتضحية من نظرائهم الذين يتصدرون الثورات والهبات الشعبية في المنطقة , وهاهم يلتقطون القفاز , وينصبون راية التحدي , مطلقين – أسوة بشباب المنطقة - حملتهم على الفيسبوك , الداعية لإسقاط النظام الفاقد لكل أنواع الشرعية سوى شرعية العنف والإكراه , والحملة تستحق كل الدعم والمناصرة من كافة أطياف المجتمع خاصة التعبيرات السياسية والمدنية , والتي هي في حاجة ماسة إلى ترتيب وضعها ولملمة صفوفها وتوحيد جهودها , وتجاوز خلافاتها الجزئية لصالح القضايا الكلية وفي مقدمتها التخلص من أعتى وأقوى أنظمة القمع والاستبداد وإرساله إلى مزبلة التاريخ بإذن الله .