majawray@gmail.com
من العوامل التى تؤخر تغيير النظام الدكتاتورى عندنا فى ارتريـا رغم ضعفه هو أننا مازلنا نسعى للتغيير من المنطقة المريحـة ولانود دفع ثمن معركة الكرامة التى تتطلب أن نعمل فى المنطقة الخطرة التى فيها القتل والاعتقال والتعذيب والاضرار بالمصالح الماديـة. التغيير يحتاج نارا مستعرة لتحرق الطاغية، ولاتستعر نار التغيير الا عندما يكون وقودها الناس ومصالحهم. نارنا هادئة حتى الآن نرمى فيها من وقت لآخـر بعض الاوراق الخفيفة مما نكتبه من بيانات وتصريحات وعيدان صغيرة من لقاءات واجتماعات هنا وهناك لنبقى جذوتها مشتعلـة لكنها بعيدة عن أن تكون حارقة.
دروس وعبر كثيرة هى التى تعلمناها من ثورة مصر الشعبيــة ومن قبلها تونس. وأول هذه الدروس أن الامـة لن تتحـر من طغاتها حتى تتغلب على سلاح الخوف الذى كبلتها وقيدتها به الانظمة الطاغيـة. والتخويف هو السلاح الرئيسـى الذى يستخدمه الطغاة فى كل زمان ومكان لاخضاع شعوبهـم والسيطرة عليها. ووسائل التخويف كثيرة ومتعددة يدخل من ضمنها القتل والتنكيل والتعذيب والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسرى وترهيب الاقارب والاصدقاء، واستخدام الجواز والمعاملات الحكومية وسيلة ترهيب..، و....و.....الخ.
وهذا السلاح ناجع فى كثير من الأوقات فى جعل كثير من الشعوب تستسلم وتخضع وتطيع الأوامـر وتطأطأ الرأس وترضى بالذلة والانصياع لمايريده الطاغية. مما يجعل كل فرد يتردد ويراجع نفسـه أكثر من مرة قبل ان يجـرؤ فى انتقاد أو يقدم على مواجهة. واذا طال الأمـر على هذا الوضع يدخل اليأس فى النفوس من امكانية التغيير وتخرج فئة من الأمـة تساند الطاغية بل وتزين له وللأمـة مايفعل ويشجعونه على الاستمرار فى الظلم والانفراد بالسلطة لمدد أطول بل ويتفنون فى تقديم الخدمات وتعدل الدساتير من أجل بقاء الطاغية حتى يكون معايير الحاكم فى الدستور ومن يترشح لمنصب الحاكم على مقاس الطاغية ومن يرتضيه فقط. حتى أن الانتخابات لوجرت فى أجواء شفافة لاتفرز الا تلك النتيجـة. رأينا هذا فى تونس ومصـر واليمـن.
وعندما يتسرب الخوف الى القلوب تفقد الشعوب قدرتها على التحليل المنطقى للأمـور واسترجاع ماضيها المختلف والتأمل فى الذات والمقارنة مع من حولها من الشعوب الحرة. بـل تظن أنها حالة فريدة يتطلب وضعها هذا الحال وأن هذا قدرها. وأنه يجب أن لاتقارن بأوضاع الشعوب الحرة من حولها وبالتالى تصدق وينطلى عليها مايقوله الطاغية ومعاونوه من مسوغات لاستمرار ظلمهم واضطهـادهم. كم سمعنا وسمع الشعب المصرى والتونسـى حججا لاستمرار الطاغيه من قبيل:
" لايوجد بديل مناسب للرئيس فى المرحلة الحالية"
" رئيس نعرفه ونعرف شروره خير من شخص جديد لانعرفه ولانعرف الى أين يأخذ البلد"
"الرئيس صمام أمان والبلـد ستغرق فى الفوضى والحرب الأهلية فى غيابه"
لوجئنا فى الحالة الارترية ... نجد أن بعض الارتريين يصدقون ما يقوله الرئيس أسياس وأبواقه من ضرورة الاستمرار فى تغييب الحريات والقتل والتنكيـل والاعتقال بدون محاكمة وتعطيل الدستور لأن البلد فى حالة حرب مع اثيوبيـا. بل ان بعض المثقفين الارتريين بقصد أو بدون قصد يجترون هذه المسوغات وكأنها منطق سوى يبرر مايقوم به أسياس من انتهاكات لحقوق الانسـان فى ارتريـا. أخبرنى أحد أعضاء الكونغرس الامريكى فى لقاء جمعنى به فى أحد اللقاءات العامة بأنه تعرف على سيدة ارتريـة محامية وعلى قدر من الثقافة ضمن وفد زاره لمنظمة تدافع عن حقوق الانسان فى العالم وكان موضوع النقاش هو السودان ومحاكمة الرئيس عمر البشير. ويبدوا أن الوفد كان يضغط باتجاه الاسراع فى محاكمة الرئيس السودانى وأن يضغط الكونغرس على الحكومة الامريكية لجعل موضوع تسليم الرئيس أول شرط تضعه أمام الحكومة السودانية. وعلى الرغم من أن عضو الكونغرس الامريكى لايختلف معهم فى ضرورة احضار الرئيس عمر البشير للمحاكمة الا أنه رأى أن وضع هذا الموضوع كشرط أولى لايساعد فى حلحلة الأمور فى السودان بل ويعقدها وأن الدبلوماسية الامريكية لن تستطيع أن تلعب دورا فى حل مشكلة دارفور أو الجنوب اذا بدأت بذلك. الشاهد فى القصة أنه قال أن السيدة الارترية كانت من أشد المتحمسين لجعل اعتقال الرئيس البشير أولا وقبل كل شئ لأنه حسب تعبيرها يقوم بانتهاكات لحقوق الانسان فى بلده. الا أن العضو فوجئ بعد فترة من موقف السيدة عندما اتصل بها يستشيرها (كونها ارترية) لدعوة وجهت له للتحدث فى مؤتمـر يشرح انتهاكات حقوق الانسان فى ارتريـا. فكان رد السيدة أنها لاتشجعه فى حضور مثل هذه المؤتمرات التى تفضح النظام الارترى على الرغم من اقرارها بالانتهاكات الواسعة التى تقوم بها الحكومة الارترية لحقوق الانسان فى ارتريا وكانت حجتها حسب تعبيره "أن ارتريا فى صراع مع اثيوبيـا وكل هذه الانتهاكات تحصل بسبب ذلك وعلى المجتمع الدولى أن يتفهـم ذلك". يقول عضو الكونغرس أنه لم يفهم لماذا يكون الصراع مع الجارة اثيوبيا سببا لتغييب الحريات وتعطيل الدستور والتنكيل بالمواطنين. بل كان رأيه أن ذلك أدعـى للتمسك بالدستور وأشاعة الحريات حتى يشعر المواطن بكرامته فى وطنه وبالتالى يدافع عن بلـده بكل قوة. يقول عضو الكونغرس "عرفت وقتها أنها تستخدم معيارا مزدوجا فى الحالة السودانية والارترية وأن ذلك لايليق بالمدافعين عن حقوق الانسان وهذا شجعنى على المشاركة فى المؤتمـر".
وسلاح الخوف هذا يشل قدرة الأفراد والشعوب فى ادراك قوتهم ومقدرتهم على التحرر والانعتاق فيظنون أنهم لاطاقة لهم بمواجهة الدكتاتور ونظامه وأنه متمكن من رقابهم أينما حلوا وأنه مدعوم من القوى الكبرى واسرائيل وأن له من القوة والأجهزة الاستخباراتيه مايمكنه حتى من سماع همس الازواج لبعضهم فى فراش الزوجية. فتتم المبالغة فى قدرات نظام الطاغية وبالتالى يستقر فى أذهان البعض بأن اى قوة معارضة ترغب فى ازاحة النظام لن تستطيع حتى توازيه فى كل هذه القوى المتوهمة أو تتفوق عليه. وحتى يتحقق ذلك تقوم الفئة المتخاذلة بالتخذيل وتهبيط المعنويات لكل من ينادى بالتغيير. والغريب أنه كلما تذكر الناس انتهاكات حقوق الانسان التى يتعرضون لها أو يتعرض لها أهليهم فى ارتريا وتحول النقاش الى ضرورة التغيير انبرت هذه الفئة المتخاذلة لتحول النقاش من "ماذا نستطيع ان نفعل وكيف" الى موضوع "ضعف المعارضة" لايصال الناس الى نتيجة مفادها أنه "مافيش فايدة" وأنه لابديل آخر الا الانصياع.
من هنا يسود اعتقاد لدى كثير من الناس مفاده أن ثمن المواجهة وضريبة الحرية والانعتاق عاليه لايمكن تحملها وأنه أهون عليهم دفع ضريبة الذل والانصياع للنظام حتى يزول بنفسه. وهذا منطق ثبت عبر التاريخ خطأه ولكن الكثيرين لايفطنون لهذه الحقيقة حتى يزول عنهم الخوف. لوأخذنا الثورة المصرية كمثال حى شاهدناه وقارنا خسائرها خلال ال18 عشر يوما هو عمرها بالخسائر التى دفعها الشعب المصرى خلال ثلاثين سنة عجاف هى عمر حكم مبارك. لووجدنا أنه لامقارنة. فعدد القتلى والجرحى والمعتقلين فى الثورة الأخيرة يعد قطرة من بحر القتل والتنكيل والتعذيب والاهانة التى تعرض لها الشعب المصرى خلال حكمه. ناهيك عن أن بعض الخسائر لايمكن أن تقدر بثمن. كم بالله عليك تقدر خسارة مثل اهدار كرامة انسان. فمابالك اذا كانت الخسارة تطال جيـلا كاملا نشأ فى هذه الظروف.
وتأثير سلاح الخوف الذى نتحدث عنه وان كان ناجعا وفعالا الا أنه مؤقت لايدوم بل يزول فور بروز فئة وأفراد من الأمـة شجعان يستنهضون بأعمالهم وبطولاتهم مقدرات الأمة وامكانياتها ويعيدون لها ثفتها فى نفسها وأنها أقدر على ازاحة النظام وبالتالى ينكشف ضعف النظام وسوء عوراته. والشجاعة كما يقول قائد النضال الافريقى فى العصر الحديث نيلسون مانديلا "لايعنى أناسا لايعتريهم أو يتسرب الى قلوبهم الخوف وانما الشجعان يخافون كغيرهم من الناس الا أنهم يتغلبون على احساسهم بالخوف ويقدمون على المواجهة". ولذا فان هؤلاء الافراد الذين سيتسببون فى انهيار نظام الطاغية سيتغلبون على عامل الخوف ويتصدون للطاغية وأجهزته مستعدين لدفع الثمن من قتل أو اعتقال أو مصادرة أراضى أو التضييق فى المصالح وهذا مايجعلهم فى موقع القدوة للمجتمع.
وهنا رسالة لأولئك الذين يودون تغيير النظام فى ارتريـا دون أن يضحـوا ويعرضوا أنفسهم للمخاطرة. لايوجد فى التاريخ أمة تمكنت من تغيير طغاتها دون تضحيات ودون سفك دمـاء أو سجون أو فقدان مصالح. والثورة السلمية التى قام بها شعبى تونس ومصـر خير مثال على ذلك. هذا أمر مفروغ منه. فسنة التدافع بين الناس سنة أصيلة من سنن الله التى لاتتغير وأن الله لايغير بقوم حتى يغيروا مابانفسهـم. وهذه رسالة أيضا الى بعض القيادات والكوادر ممن تصدروا هذا الشعب من سياسيين ومثقفين واعلاميين وكتاب...لايمكنكم أن تكونو قيادات لهذا الشعب ولستم على استعداد للتضحية. لايمكن أن تقودوا وتشكلوا قدوة للتغيير أمام هذا الشعب ولستم من الشجاعة حتى أن تذيلوا مقالاتكم بأسماءكم الحقيقية. يؤسفنى عندما أقرأ مقالات عن أفراد وكوادر لهم امكانيات فكريه وقيادية وبعضهم يصول ويجول عبر مواقع البالتوك دون أن يعرف عن نفســه. كفانا خوض المعارك بالأسماء المستعارة والكنى. دعونا نكن واضحين أمام بعضنا البعض وليدافع كل منا عما يراه صحيحا. ماكانت الأشباح يومـا قيادات وانما القيادات الحقيقية أناس حقيقيون يعرفهم الناس ويعرف تاريخهم ومواقفهم ويتابع الشعب مايتعرضون له من مخاطر القتل والاعتقالات والتضييق مقابل تصديهم للظالم بكل وضوح، وهذا مايجعلهم قدوة للناس وشعلة يهتدى بها خلال مسيرة التغيير ، يعجب الناس من قوة صمودهم ومنازلتهم، يرى الناس فيهم أنفسهم ورغبتهم فى التحـرر وهذا مايجعلهم مثالا لهم يفخرون به ويشيرون به على أبنائهم. نـود أن نرى نماذج لمثل هذه القيادات فى ارتريا من الجيل الحالى يكونون قدوة لنا ولأبنائنا، يشار اليهم بالبنـان ويعرف القاصى والدانى تضحياتهم. ظل الزعيم الافريقى نيلسون مانديلا مصدر الهام لشعبه ل 27 عاما مع أنه كان قابعا فى سجنه. وكذلك كان الشيخ الشهيد المقعد أحمد يس فى فلسطين فى فترة سجنه. وأحدث من دخل قائمة الابطال الشاب "وائل غنيم" من ثورة مصر الشعبية الذى قبض عليه قبل يومين من انطلاق الثورة بعد علم السلطات بأنه كان وراء الحملة الاعلامية التى قادت الى الانتفاضة. ظل معصوب العينين لمدة 12 يوم حتى أطلق سراحه فكان مصدر الهام جديد للجماهير. عندما اطلق سراحه وكان على موعد مع قناة تلفزيونية. عندما أخبر بعدد القتلـى الذين سقطوا فى المظاهرات وشاهد صور بعضهم لم يتمالك نفسـه وانفجر باكيا وانهمرت الدموع من عينيـه. كانت لهذه المشاعر الصادقة أثر كبير فى تدفق آلاف مؤلفـة من الشباب ومن غيرهم وانضمامهم الى الثورة. والحقيقـة أن التأثير لم يأت من رؤية دموع هذا الشاب – فما أكثر مارأى المصريون ممثليهم فى أدوار مشابهة فى المسلسلات المصرية دون تأثير يذكر – ولكنه قبل ذلك الموقف الشجاع الذى قام به من أجل شعبه ثم تعرضه للمعاناة بسبب ذلك. هذا ماخلق منه بطلا وقائدا يتأثر الناس بـه وبكلامه وبدموعه. كما أن الشرارة التى أشعلت الثورة كانت بسبب تضحية الشاب خالد سعيد الذى ضحى بحياته و سمى حينها بشهيد الطوارئ.
أما النضال والسعى للتغيير دون دفع الثمن ودون التعرض لأى أذى فى أنفسنا ومصالحنا فهذا ممالايستقيم ومن يظن غير ذلك فعليـه ألا يتباكـى لطول عمـر حكم أسياس. نارنا مازالت هادئة والتغيير يتطلب نارا مستعرة لتحرق الطاغية ونظامه ، ولاتستعر نار التغيير الا عندما يكون وقودها الناس ومصالحهم. . آن الأوان لأن نعيد النظر فى بعض أساليبنا وطرائقنا السلمية منها والعسكرية حتى نكون أكثر فاعليـة.
اللهم أعنا على تغيير أنفسنا حتى تتغير أحوالنـا