لم يكن مصطلح الثورة دارجا في التراث الفكري الإسلامي على مدى تاريخ طويل؛ وكان مفهوم الجهاد هو المسيطر على الفكر الإسلامي حيث يحمل معاني المقاومة للظلم أو الاحتلال؛ "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" سنن الترمذي - (ج 8 / ص 345) ؛ فالقول جهاد كما أن الفعل جهاد؛ والجهاد هو مفهوم شامل يحتوي على كافة الإجراءات حتى وإن لم تبد كذلك بشكل مباشر. فكل ما يفعله الإنسان من عمل هو جهاد في سبيل الله من إحدى الجهات طالما كان الهدف النهائي هو الوصول إلى نموذج المجتمع الإسلامي والحفاظ عليه ولكن دون إغفال الفعل والاحتفاظ فقط بالقول.
وتعرض مفهوم الجهاد لضربات متتابعة بل وتشوه وأصبح مرادفا في ذهن البعض للعنف؛ وكأن العنف في ذاته شيء مذموم. فنحن أمام تشويه مزدوج للمصطلحات والمفاهيم؛ فلا الجهاد عنف ولا العنف في ذاته شيء مذموم.نتيجة لهذا التشوه المتتالي المتعمد إلى حد كبير؛ بدأ الإسلاميون "أو بعضهم" في إعادة صياغة الأفكار لتتناسب مع الشكل الجديد للمفاهيم؛ وظهرت جماعات لتوازن هذه الميوعة في المفاهيم على أقصى اليمين لا تقبل إلا التشدد الكامل في الأفكار؛ ووقعت الثوابت بين تشدد وتطرف من جانب وبين تمييع ومحاولة صناعة توازن من جانب آخر.ومع الابتعاد عن فكرة المقاومة المرتبطة بمفهوم الجهاد وتماهي الإسلاميين مع نموذج الدولة الحديثة؛ احتل الإسلاميون في مكان الطبقة البرجوازية في المجتمع التي تحاول الحصول على أقصى المكاسب في السلطة والثروة دون الدخول في صدام مع الطبقة الحاكمة؛ وهذا المكان يجد صعوبة شديدة في الاستمرار أو حتي بدء عمل ثوري؛ حيث إنه يمتلك بعض المكاسب والمزايا وله تفكير إصلاحي بعيدا عن فكرة الثورة التي تطمح إلى التغيير الجذري.
وأزمة الإسلاميين الحالية مركبة؛ فهم موجودون في تنظيم للمجتمع والسلطة لا يتفق مع بنية النموذج الإسلامي؛ كما أن بعض المفاهيم الرئيسية تم تشويهها إما عمدا "من العدو" لتدمير الأفكار الرئيسية التي يبنى عليها نموذج السلطة في الإسلام؛ أو طوعا "من التيارات الإسلامية" محاولة لتجنب الصدام المتوقع مع النموذج الغربي ظنا منها أن المفاهيم الثابتة الراسخة لن تتغير مهما تعرضت للتشوه أثبتت الأحداث أن هذا أحد الأوهام الكبرى.هذه الأزمة المركبة أنتجت فكرا مشوها عن الثورة عند البعض؛ فتجد متناقضات مجتمعة في جملة واحدة مثل الثورة السلمية؛ فلم يعرف حتي التاريخ الإسلامي تغييرا جذريا إلا بالقوة؛ ولم تستسلم السلطات المستبدة ولم تحرر أمم تحررا حقيقيا إلا بالقوة؛ ولم نشهد ثورة ناجحة حقيقية إلا بالقوة؛ فمن أين جاءت هذه الفكرة؟جاءت من المسارات الخاطئة التي سار فيها الإسلاميون والتي أجبرهم فيها النظام على الوقوف في المكان الخطأ مكان البرجوازية التي تمنع الثورة وإن حدثت فهي القادرة على تبريدها والحفاظ على نمط السلطة الحالي؛ وقد راهنت السلطة القديمة على ذلك وظنت أن الإسلاميين هم الأقدر على ممارسة هذا الدور لتدمير الثورة تماما. لم يدرك الإسلاميون أنهم العدو الأكبر للعسكر ولنظام السلطة في مصر؛ وأنهم مجرد وسيلة للحفاظ على النمط القديم للسلطة وأن العسكر لهم بعد أيديولوجي معلمن لن يقبل بوجود أيديولوجية مخالفة حتي لو حافظت على وجوده.إصرار الإسلاميين على التماهي مع شكل السلطة بالدولة الحديثة يجبرهم على التشوه ثم يجبرهم على الوقوف في الأماكن الخاطئة وبالتالي التحرك في مسارات خاطئة.
واستمرار النمط الحالي في التعاطي مع الأفكار والمفاهيم هو استمرار في الابتعاد عن الثورة بمضامينها الحقيقية؛ فالثورة ليست كلمات وآمال ولكنها أفكار ومفاهيم وإجراءات متكاملة تحتاج لبنية فكرية لا لكلمات ثورية فقط.
وحتى الآن كما أرى لا يزال الإسلاميون مترددين في الخروج من المساحة التي وضعهم بها النظام سواء القطري أم الدولي الذي يضمن بها تحركهم في المناطق الآمنة له؛ فما زالوا دون إدراك أحد الأعداء المهمين في خريطة مصالح المجتمع الدولي.
إن الخروج من تلك المساحة لم يعد رفاهية وحتى لم يعد أكثر خطرا من الوضع الحالي؛ وحالة المنطقة العربية بأكملها حاليا لا تتحمل استمرارا في الوضع الحائر الحالي؛ فأدوات التدمير الذاتي الاختياري التي زرعت في المنطقة منذ عشرات السنين بدأت تؤتي أكلها وتتدافع المنطقة بسرعة وحماس منقطع النظير لتفجير نفسها من الداخل رافعة الحرج والعناء عن أعدائها. بل وقامت بعض الدول المركزية بإدارة انقلاب مصر للتسريع بعملية الانتحار الجماعي.
استعادة المفاهيم والأفكار بعيدا عن المواءمات والتوازنات؛ والخروج من المساحات المفروضة على التيار الإسلامي أولى الخطوات لتصحيح المسار والدخول على طريق الثورة؛ فالكلمات وحدها لا تقنع القواعد ولكن الكلمات المرتبطة بإعادة التموضع في المكان الصحيح مع الجماهير هي البداية الصحيحة؛ والابتعاد عن أن يكون التيار الإسلامي أحد أدوات الدفاع عن الدولة والسلطة.
http://arabi21.com/
بقلم: عمرو عادل