بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا يهربون من ارتريا ؟
قصة شعب معذب
بقلم : منصور طه
لماذا يهربون ؟ سؤال مربك ولغز محير ، شعب يهرب من أرضه بعد الاستقلال ، ويختار اللجوء المنهك والصعاب المهلكة ؟ هل الدوافع اقتصادية لتحسين الأحوال المادية ؟ ولكن هل تصح هذه إجابة أم أنها إجابة محيرة ؟ لأن من يطلب التحسين لا يسلك مسالك الهلاك ، ولا حتى يحتمل مسالك الصعاب ، فهي إذا ليست دافعا حقيقيا ؟!
سؤال ولا إجابة مقنعة ، سؤال تتناوله الدوائر الخارجية ، منهم من لا تتضح له الحقيقة ، ومنهم من يغطي ويدلس به الحقيقة ، لكنه سؤال مربك في باطنه سؤال آخر، ماذا جني الشعب الارتري من الاستقلال؟ خرج المستعمر البغيض نعم ، لكن هل خروج المستعمر بلحمه ودمه هو كل القضية ؟
دولة استبداد بوليسية طائفية ، شعب مضطهد معذب في بلاده ، تشرد ولجوء مستمر، سجون ومعتقلات ، خطف وقتل ، هذه هي الحصيلة والنتيجة لاستقلال ميزان التضحية فيه ثقيل، وئد في بدايته وسرق عند إعلانه ، ربع قرن مضى على استقلال إرتريا مسلوب القيمة الأساسية التي يحويها في طياته ، حرية! ذلك المعنى الكبير والغامض والمنزوع منه دلالاته ، وموضع النزاع والصراع بين البغاة المستبدين والضعفاء المستعبدين المضطهدين .
في استطلاع لقناة أجنبية (حول لماذا يهربون من إرتريا) كان بعض الشعب يعبر في حوار سري ، والآخر تظهر تعابيره في وجهه وتصرفاته خلاف لسانه وقوله الذي يخفي به الحقيقة خوفا ورهبة ، وآخرون يهربون مذعورين عند الاقتراب منهم لا يقبلون الحوار، ومن تجاسر منهم أو اضطر قال وتكلم .
قال أحدهم خلف الكاميرا : لا طعم للحياة ولا قيمة للإنسان بلا حرية .
وقال الثاني : الحياة مستحيلة دون حرية الرأي والعمل والسفر والتنقل والتعليم .
قد أظهر كل هذا المشهد الذي تحركت فيه القناة حجم محنة الشعب الإرتري ، وأعطى صورة واضحة لمأساته التي أصابته جزاء لكفاحه من أجل الاستقلال .
النظام هو الذي ينقل الناس من عذابات إلى أخرى في سلسلة طويلة يتفنن في استخراج أسوئها وأقساها .
من ذلك لجأ أخيرا إلى حظر اقتصادي على الشعب وسحب كل الأموال منه ، النقد مسحوب من أيدي الناس ، بل العملة مطاردة في جيوب الناس ، الذهب منهوب ومن يبحث عنه من عامة الشعب في باطن الأرض يقتل وينكل به ، احتكار للغذاء والطعام ، واحتكار للتجارة ، واحتكار للمواصلات والسفر، الدولة تتدخل وتدخل في كل شيء .السكن والمأوى تتصرف فيه السلطة كما تشاء ، تارة تمنعه ، وتارة تنهبه وتسلبه ، وتارة تحرقه . البناء والتعمير ممنوع حتى يكون الناس بلا مأوي ولا سكن .
ومن جانب آخر هناك مشكلة مؤرقة زادت حمولة العذاب والمحنة ، وهي وضع اللا حرب واللا سلم بين إرتريا وإثيوبيا سوط مصلت على الشعب وأداة من أدواتها التي تعذبه بها وتحكم بها القبضة الأمنية والعسكرية عليه ، والنظام يتخذها ذريعة في تنفيذ سياسات تدمر الاستقرار والأمن والاقتصاد ، والدولتان مستفيدتان من هذه الوضعية التي أنهكت المجتمع وأتعبت الناس ، وتظهر آثارها في سياسة عدم الاستقرار والدفع للهجرة المستمرة التي أفرغت البلاد .
ومن خارج البلاد تتكشف حقائق ووجه آخر يوثق للجريمة وحجم الانتهاكات ، فتأتي شواهد وشهادة الأمم المتحدة لما طفحت به الجريمة ، وأضحت ضحاياها تفوق العد والحد . قالت : وهناك جو من الإفلات من العقاب للجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب منذ ربع قرن
وقالت : إن جرائم الاسترقاق والسجن والاختفاء القسري والتعذيب والاضطهاد والاغتصاب والقتل ، والأفعال اللا إنسانية الأخرى ارتكبت كجزء من حملة ممنهجة وواسعة النطاق لزرع الخوف وردع المعارضة ، وفي نهاية المطاف للسيطرة على السكان المدنيين الإرتيريين منذ العام 1991.
شهادة لجنة تقصي الحقائق قيمتها أنها شهادة دولية ، طالما غضت الطرف طويلا ، وأرادت أن تكشف بعض الحقيقة من قصة شعب معذب رهين نظام يفعل فيه ما يشاء . ما يهم هو كيف يستفيد الشعب المضطهد من هذه الشهادة ويجعل منها ملفا يملأ المنضدة الدولية وأداة رادعة للمجرمين . هل يمكن تحريك قانون الملاحقة والمطالبة الجنائية الدولية لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية في ارتريا ؟ خاصة مع هذه الشهادة للجنة الدولية ومطالباتها بالملاحقة الجنائية .
وبالنظر إلى الجزء الآخر من الشعب الارتري الذي له دوره المؤثر في زيادة محنة الشعب وهي قواه السياسية المعارضة التي بسلوكها السالب تشكل دائرة من دوائر التفكيك والتشتيت ، وصرف العمل المقاوم للاستبداد من فعله وأدائه وأهدافه ومقاصده .
هل تعي المعارضة الإرترية حجم المعاناة والمأساة التي يعيشها الشعب أم أنها مشغولة بمصالح ضيقة ، وصراعات مصنوعة خارج السياق لاهية ومتلهية عن دورها ومهمتها الأساسية ، وغاب وعيها وإدراكها لمراراة ومحنة الشعب الذي تجتره في كل حين عذابات ومحنة النظام القاسي ، وللاسف أن الوقوع في دائرة صراعات المصالح الضيقة أنتج انصراف عن القضية الأساسية ، وتحلل من المسؤولية والمهمة الكبرى ، وضحالة في النظر وضيق في الأفق ، وكما أن السلوك المشوش في قضايا انصرافية تربك المشهد السياسي ، وتبعد النجعة ، وتطيل من عمر المحنة ، وفي النهاية تفقد المعارضة مقوم وجودها واستمرارها .
إن القضية هي أكبر من هذا ؟ قضية شعب مقهور ينتقل من احتلال أجنبي إلى احتلال واغتصاب وطن ، يمارس كل الوان الأذى والإهانة ، وقد كان مطاقا ومحتملا من المحتل الأجنبي ، وكان الشعب يتسلى بالصبر والجلد والمثابرة على المقاومة . أما الآن زاد الكي ، وكثرت الجراحات من قريب وبعيد ، فأخذت كثيرا من صبره ومثابرته .