في مناسبة عاشوراء عبـــر ودروس
في الصراع بين الحـق والباطـل
عبد الرحمن أحمد
اللهم تقبل من الصائمين صيامهم، ووفقنا جميعا لما تحب وترضى ، ونسألك أن تغفر لنا جميعا ذنوبنا وخطايانا، لقد صام المسلمون يوم عاشوراء تأسيا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي صام ذلك اليوم ، وأمر بصيامه ، وما ذاك إلا شكرا لله على النصر المبين في يوم من أيام الله كان المسلمون في أضيق وأحلك الظروف ، وكانوا في قبضة فرعون عدو من أعداء الله الذي تمرد على أوامر الله ، وطغى طغيانا كبيرا وتجبر ، حتى زعم أنه هو الرب الأعلى ، ولكن عندما بلغ الظلم منتهاه ، وظن الفاجر أنه سيطر على الأرض، وأنهم قادرون عليها أتاه أمرنا فغرق هو وجنوه في لجة البحر، إذا أراد الله أمرا فيقول له كن فيكون.
هذا اليوم يوضح لنا الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، وهذه سنة الله في خلقه ، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عزوجل (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليمتحن صدقهم وصبرهم وجهادهم وبذلهم ، فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق، ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل، ولقد صور الله لنا فصولا كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين ، ومن هذه القصص العظيمة قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر، والتي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعا، وهي أكثر القصص القرآني تكرارا، وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صناديد قريش ، ولما تعانيه الإنسانية من فراعينها إلى قيام الساعة، ولما فيها من التسلية للرسول وللمؤمنين حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين ، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة والدروس والحكم الباهرة والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون منذ أن كان حملا في بطن أمه، فقد قيل لفرعون، إن مولودا من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك، وعند ذلك أصدر فرعون أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذرا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر الله (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، واحترز فرعون كل الاحتراز حتى لا يكون لهذا الغلام وجود في هذا الكون، ووظف رجالا وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ومتى ما علم ميقات وضعهن إلا وتراقب ، فأي امرأة تلد ذكرا إلا تم ذبحه من ساعته، وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفا عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت وركبها من الهم والخوف ما لا يعلمه إلا الله، ولكن الله حفظه وأيده ومكنه وحصل له من الأحداث ما يعلمه الجميع ، وقد ورد ذكره في كتاب ربنا (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم، فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات (كلا إن معي ربي سيهدين) ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق بإذن الله وصار هذا الماء السيال وتلك الأمواج العاتيات كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في إثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه وتكاملوا خارجين ، وتكامل فرعون وقومه داخلين أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين ، وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، ولنعلم أن العاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا بدينهم، وأن الباطل مهما انتفخ وتجبر ، وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه أو يرد كيده وباطله ، أو يهزم جنده وجحافله ، فإن مصيره إلى الهلاك وعاقبته هي الذلة والهوان، وكان هذا النصر المبين في يوم عاشوراء الذي انتصر فيه الحق بفضل الله من الله سبحانه وتعالى.
ومن المفارقات العجيبة ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضا من قتل لسيد شباب أهل الجنة الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألستنا، ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن ما يفعله بعض الناس في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين رضي الله عنه ، وما يقومون به من تعذيب أنفسهم وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم، والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين ولطم خدودهم وظهورهم ونتف شعورهم ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة والمنكرات الظاهرة ومن كبائر الذنوب التي تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرتكبيها فقال: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) متفق عليه، وعن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (برأ من الصالقة والحالقة والشاقة) متفق عليه، والصالقة هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب، والحالقة هي التي تحلق راسها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها، فكل عمل يدل على الجزع والتسخط وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم، ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة وتشويه لصورة الإسلام وتنفير غير المسلمين من الدخول فيه، وقد رأينا بعضا من وسائل الإعلام العالمية المعادية للإسلام تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وأن هذا هو ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام، وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار وإعلان للبراءة منهم، ويقابل هؤلاء فرقة أخرى ناصبوا الحسين رضي الله عنه العداوة والبغضاء، فيتخذون من هذا اليوم عيدا، ويظهرون فيه الفرح والسرور ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة، وهذا كله من البدع المحدثة والضلالات المنكرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة، وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم، وأن منهج أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعا، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم، ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته وتبليغ هديه وسنته، رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا الله بهم ي جنات النعيم.
وعلينا أن نتذكر من يوم عاشوراء أن وعد الله حق ، وأنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون، فإذا جاء موعود الله سبحانه وتعالى على الظالمين فإنه لن يتأخر، وكان فرعون يقول ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي) وكان يقول (أنا ربكم الأعلى) وبعد ثانية واحدة إذا هو جثة هامدة ليس فيها حراك، وإذا جنوده ومن كان يتكل عليه جميعا قد ابتلعهم البحر فلم تبق منهم باقية، لم يبق منهم إلا بعض الحلي الذي كان على أجسامهم لفظه البحر لبني إسرائيل، فأورثهم الله ما كانوا فيه من القصور والجنان (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) ، إن هذه آية من آيات الله وعبرة من العبر التي يعظنا الله بها، فعلينا أن نتعظ بما حدث لفرعون وأمثالهم خاصة في زماننا هذا فراعنة كثر نسأل الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، علينا أن نقبل على الله بقلوب مؤمنة مطمئنة، وأن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى من جميع الذنوب ما ظهر منها وما بطن، وأن نعرف المعروف وندعوا اليه، وأن نكر المنكر ونقف في وجهه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض حيث يقول رب العزة والجلال: (لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ، ولكن كثيرا منهم فاسقون) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم) .