قطـار السـلام في المنـطقـة إلـي أيـن ..؟

قطـار السـلام في المنـطقـة إلـي أيـن ..؟

عبد الرحمن أحمد

نعني بقطار السلام في المنطقة ذلكم القطار الذي خرج من نفق مظلم بعيد مبادرة أبي أحمد لإنهاء حالة اللا حرب واللا سلم التي كانت بين البلدين والتي قوبلت من قبل أسمرا بدون قيد ولا شرط، ورأينا بعد ذلك قطار السلام يصل إلى الصومال وجيبوتي في محاولة لإنهاء النزاعات والحروب البينية التي شهدتها منطقة القرن الإفريقي .

فالرئيس الإثيوبي على ما يبدو محب للسلام ، وركب قطار السلام عن رغبة، في المقابل ركب إسياس أفورقي هذا القطار انتهازا للفرصة التي لم يكن يحلم بها والتي ستتيح له خلاصا من العزلة السياسية ، والضائقة الاقتصادية ، والمهددات الأمنية الداخلية والتذمر الداخلي ، بالإضافة إلى تلبية لرغبات جهات خارجية مقابل مصالح آنية خاصة لا تمت بمصلحة للوطن ولا للشعب ، وهذا يمكننا استنتاجه من خلال بقاء الوضع المذري في الداخل الإرتري على ما هو عليه قبل توقيع السلام ، حيث السجون والاعتقالات التعسفية والهروب المستمر للشباب والشيب والأطفال وعدم العودة للاجئين الإرتريين.

إرتريا تشكل عمقا استراتيجيا لكل الدول المطلة على البحر الأحمر ؛ باعتبارها البوابة الجنوبية المشرفة على مضيق باب المندب ، كما تعد إرتريا حلقة وصل تجاري وحضاري بين القارات الثلاث إفريقيا وأوروبا وآسيا (خاصة شبه الجزيرة العربية) ، لهذا تعد إرتريا ودول القرن الإفريقي محط أنظار دولي وإقليمي.

وبكل تأكيد إن قطار السلام يتأثر سلبا وإيجابا نتيجة للصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة، خاصة للوجود الأمريكي على الدوام فيه، عندما أغلقت مصر باب المندب في عام 1973 بسبب حرب العاشر من رمضان ، أعلنت أمريكا وقتها أن باب المندب يعتبرممرا ملاحيا دوليا ، يجب أن لا يغلق مهما كانت أسباب الصراعات المحلية أو الدولية ، ويجب أن يظل المضيق مفتوحا دون قيد أو شرط ، وذلك حفاظا على مصالحها ومصالح دول الاستكبار.

وفي الآونة الأخيرة جلبت المنطقة لاعبين جدد مثل الصين، وأصبح التنافس الحميم بينها وبين الدول أعلاه، كذلك التحالف (القطري التركي  الإيراني) من ناحية ، والتحالف (السعودي الإماراتي المصري) من ناحية أخرى ، فهم ليسوا بعيدين عن قطار السلام ونجد التنافس القوي بينهما ، وما توقيع اتفاقية السلام في جدة ومن قبل في الإمارات منا ببعيد.

جاء قطار السلام وغير موازين القوى في المنطقة ، وذوب تلكم التحالفات السابقة والتي كانت سائدة، حيث تم إنهاء الخلاف الإثيوبي المصري حول سد النهضة بعيد الزيارة الماكوكية التي قام بها أبي أحمد.. كذلك التحالفات الأخرى حدث فيها نوعا من  الارتجاج . فالتحالف الذي كان بين السودان وإثيوبيا في مواجهة  التحالف (المصري الإرتري) صار ضعيفا وليس كما كان في السابق ، وكنتيجة لهذه التحولات في المنطقة تم قفل الحدود بين إرتريا والسودان وذلك قبل انطلاق قطار السلام، وما زال حتى كتابة هذه السطور خاصة عن طريق البر أما الجو فهو لم يقفل حتى في أوج الأزمة بين البلدين، وفي الآونة الأخيرة تبادر إلى مسامعنا أن هناك رغبة من السودان لحل الأزمة مع اسمرا.

بالفعل نجح قطار السلام في تطبيق المعادلة الصفرية للخلافات بين دول المنطقة ، ولكن في المقابل وكنتجة سلبيية لقطار السلام هناك إخفاقات هنا وهناك ، وفي الداخل الإثيوبي نجد أن المعادلة الصفرية مختلفة نوعا ما ، حيث تم إقصاء مكون أساسي من مكونات الشعب الإثيوبي وهم الوياني تقراي، كذلك الخلاف الأخير بين المعارضين العائدين من إرتريا وسكان المنطقة حول العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بسبب خلاف حول العلم الذي تم رفعه هناك ، وحدوث اشتباكات بينهما مما كانت نتيجته عدد من القتلى والجرحى، كذلك قطار السلام لم يستوعب السودان ولو في مؤخرة قاطرته حتى الآن ، ما هي الأسباب هل للسودان دور في عدم مشاركته في قطار السلام؟ أم تم إقصاءه عمدا.

على العموم من منا لا يسعد بقطار السلام في أي بقعة من بقاع العالم ناهيك أن يكون السلام في منطقتنا ، وعرف إسياس أن الصراع في المنطقة هو صراع دولي وإقليمي يجب عليه أن لا يكون بعيدا عن أحداثها ، بل عليه أن يتواجد في داخل حلبة المصارعة ، وقد يقوم ببعض الأدوار توكل إليه من جهات خارجية دولية لها أطماع وأهداف في المنطقة.

أما عن السؤال الذي يحمل عنوان هذا المقال قطار السلام في المنطقة إلى أين؟ طرحت هذا السؤال على الدكتور جلال الدين محمد صالح وهو من القيادات الفكرية والسياسية الإرترية المتابعة والناشطة ، فأفادني جزاه الله خيرا بأنه كتب مقالا شاملا في هذا الموضوع، ولأهمية المقال رأيت أن أنقل إليكم جزءا منه، قال:

( أحسب أن تشبيه تسارع الأحداث المفاجئة، على خط العلاقات الإرترية الإثيوبية، والدول المعنية، في القرن الإفريقي، بالقطار المندفع، تشبيه معبر بدقة عن الواقع.

فعلا ها هو القطار قد اندفع  من أديس أبابا، على هذه السرعة الفائقة التي نشاهده بها، ولكن هل سيصل إلى محطته سالما، كما خطط له المخططون، أم سيصطدم في سكته بما يطيح به، ويجرفه بعيدا عنها؟.

في محاولة الإجابة على هذا التساؤل، يظهر لي البدء من نقطتين، أو مسألتين، هما في نظري:

أولا: شخصية أفورقي بصفته المحطة الرئيسة في طريق هذا القطار.

ثانيا: موقف التجراي بصفتهم العنصر الفاعل والأساس، في صنع المشكلة التي أوقعت القطيعة، بين إثيوبيا وإرتريا.

وبالنسبة  لشخصية أفورقي، فإن أبرز ما يمكن أن يلحظه المتأمل فيها، إنها شخصية طموحة، إلى حد جنون العظمة، متطلعة إلى السلطة، بانتهازية فائقة الحد.

وهذا وإن كان حقا طبيعيا لكل فرد،  في حدوده الطبيعي، إلا إن منهجية إسياس أفورقي، في الوصول إلى طموحاته السلطانية، تتخذ من الانتهازية، والغدر، والميكيافيلية، مرتكزها الأساس، والأول.

وهو ما رأيناه منها، في تحالفاته المتقلبة، والمتبدلة، حسب مقتضياته تطلعه السلطوي هذا.

فهو الذي استغل عثمان صالح سبي، في تقوية مجموعته، وهو الذي استغل الشيوعيين، في الجبهة الشعبية، في القضاء على عثمان، ثم في القضاء على الجبهة، ثم في القضاء عليهم هم، واحدا بعد الآخر، في داخل الميدان، إلى بعد الاستقلال، حين اتهم مجموعة ( ج ١٥) بالعمالة والخيانة، مخفيا إياهم من وراء القضبان، وربما جثثهم في القبور.

وغدر بالإنقاذ في الخرطوم، بعد أن وظفهم في إضعاف الحركة الإسلامية الإرترية، وتجميد نشاطها؛ مما أدى إلى شطرها.

وغدر بالقطريين وباعهم، بعد أن جعل منهم وجعلوا منه حلفاء.

وتحالف مع الإيرانيين، ومكن الحوثيين من التدرب في إرتريا.

هذه الشخصية، بهذه الصفات، لا يمكن أن يكون السلام الحقيقي مقصدها، ومطلبها، وغايتها؛ لأنها تدرك تماما، في السلام الحقيقي نهايتها، وفِي بقاء التأزم واستمراريته بقاؤها واستمرارها.

وهذا يعطينا مؤشرا إلى أن أول ما سيصطدم به قطار السلام هذا، هو طبيعة شخصية إسياس أفورقي، التي تجيد اللعب في المتناقضات، بروح انتهازية، لا ترى في الغدر عيبا، متى تطلبته مصلحة هذه الشخصية، لا مصلحة الوطن والمجتمع الذي تحكمه.

وبهذا أستطيع أن أغلب فشل هذا السلام، ما دام إسياس أفورقي يتعاطاه بهذه الانتهازية.

إنه فرض عليه فرضا، وأحرج به إحراجا، وما استقبل قطاره في أسمرا، إلا مجاراة للمغريات الخليجية، وفي ذات الوقت تحاشيا وتلافيا للمهددات، التي يمكن أن تعصف به عصفا، إذا تحدى سرعة هذا القطار المندفع، ووقف أمامه، على سكته، وإلا كيف يمكن أن يكون سلام في الخارج، من غير أن يكون سلام في الداخل؟.

هل إسياس أفورقي على استعداد لدفع مستحقات السلام، من التحاور مع المعارضة الخارجية التي لا يعترف بها أصلا، كما فعل أبي أحمد؟.

هل إسياس أفورقي على استعداد، للإفراج عن المعارضة الداخلية التي زج بها في السجون، وفتك بها فتكا؟.

هل إسياس أفورقي على استعداد لعقد مؤتمر مصالحة وطنية، جامع وشامل، ينبثق عنه دستور وطني، وتقوم عليه، دولة التوافق الوطني؟.

وهل هو على استعداد للإفراج عن الدستور الذي اعتقله، بعد أن جمده؟.

وهذه أكبر مخالفة دستورية ارتكبها إسياس، ولا بد أن يحاسب عليها، إذ انقلب على الدستور، وأدار البلد، وما زال، بما في ذلك توقيعه لمعاهدات السلام مع إثيوبيا، في غياب موسسات دستورية؟.

وهو ما يفقد هذا السلام الصوري شرعيته؟.

إذا كان في هذا السلام الصوري نجاح، فهو نجاح أبي أحمد في تجريد أفورقي من أسلحته التي كان ممسكا بها ومراهنا عليها، لضرب أمن إثيوبيا، وفِي حرمانه من المناخ المتأزم الذي كان يتنفس به، وفيه، ويتعلل لإدامة تسلطه على شعبه، وفِي دفعه إلى تمكين إثيوبيا من استغلال الموانيء الإرترية؛ لصالح نموها الاقتصادي، دون مناقشة الإرتريين عبر موسسات دستورية مردود ذلك على مصالحهم العامة، ومدى توافقه مع سيادتهم الوطنية.

وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، المتعلقة بالجماعة التجراوية الفاعل والصانع لأساس مشكلة التأزم مع إرتريا، فقد فقدت أهم المؤثرات، في مفاصل السلطة الإثيوبية، وصناعة القرار فيها.

وتعد مكايدات أفورقي ضد نخبة التجراي الحاكمة، قبل أبي أحمد أحد أهم العوامل التي نخرت قبضتهم وأوهنتها، حتى التآكل والانهيار، ومن هنا قال لهم إسياس: اللعبة انتهتThe game is over.

ومع هذا، ستظل نخبة التجراي مؤثرة بقدر ما، في مسار القطار المندفع، ولن تتركه يمر بسرعته هذه محطما مصالحها الأساسية.

فإذا كانت اللعبة قد انتهت بالنسبة لإسياس، فإنها لم تنته بعد بالنسبة لها، وكل ما في الأمر أنها استراحة محارب، ستستأنف بعدها اللعبة ولكن بقواعد جديدة، وعلى بساط جديد.

وهذه عقبة كؤود كسابقتها، لا تقل خطرا على قطار السلام، من انتهازية إسياس، في تعاطيه مع الأحداث.

وإذا ذهبنا إلى أبعد الاحتمالات وأسوئها، فإن اغتيال السلام بقلب قطاره رأسا على عقب، سيكون باغتيال أحد رجليه الأساسيين، الدكتور أبي أحمد، والدكتاتور إسياس أفورقي، ما لم يهدأ القطار من سرعته لإشراك نخبة التجراي في تحريكه، وتحديد مقدار سرعته إلى أسمرا.

وأظن سيضطر أبي أحمد إلى تقديم قدر من التنازلات في سبيل ذلك، وهو ما يعني تعذر تجاهل نخبة التجراي، وإلا فإن السلام  ميت لا محالة؛ لكونه ولد بعملية جراحية، قبل اكتمال مراحل نموه من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم تكامل أركان وشروط بيئة الحاضنة الصناعية القادرة على رعايته وحمايته، والوفاء بمتطلبات نموه.

وفي هذا السياق إذا ما عدنا إلى ماضي التاريخ، نجد المنطقة لم تشهد سلاما حقيقيا قط، وإنما هي في دوامة من التدافع والتصارع، وإن الأكسوميين بجناحيهم (التجرنية) و(الأمهرى) هم من يفقدونها سلامها الحقيقي، بحكم أنهم أقلية خائفة وقلقة، ومتطلعة في الآن نفسه إلى حكم الأكثرية من الأورومو والبجة، والشعوب الأخرى.

وهذا يحملهم على التحالف مع قوى أجنبية، سابقا البرتغال ثم الإنجليز، بعد ذلك الأمريكان، والصهاينة، ثم الاتحاد السوفياتي، في عهد منجستو، وحاليا مع الأمريكان والصهاينة أيضا.

وأخشى ما يخشونه في تحالفاتهم هذه الاسلام، فهم يقعون وسط محيط جغرافي كله مسلم : السودان، الصومال، اليمن، جيبوتي، السعودية.

وهذا يقلقهم جدا ويؤرقهم، ومن ثم يَرَوْن التحالف مع الغريب الدخيل، ضرورة استراتيجية بالنسبة إليهم، وبهذا يفقدون المنطقة استقرارها.

حاليا يشهد الصف المسلم انشقاقا داخليا كبيرا، هو نتاج طبيعي لاتفاقية ( سايكس بيكو ) بحكم تضارب المصالح، وتباين الاستراتيجيات.

وفِي هذه الحالة من الانشقاق والتصدع جاء الربيع العربي، وتعمقت معه الأزمة، واحتد الصراع بين معسكر ثورة الربيع العربي، ومعسكر الثورة المضادة.

ولا بد أن ينعكس ذلك على القرن الإفريقي، بوصفه جزءا لا يتجزأ من استراتيجية تدافعات المحيط العربي.

وعلى أساس من هذا كان الوجود التركي والقطري، في الصومال والسودان، يشاركه وجود مضاد له، تمثله الإمارات في إرتريا، بعد أن تعثر وجودها في جيبوتي والصومال، وهو وجود يتناسب ويتوافق مع استراتيجية التحالف العربي في مواجهة إيران، بكسر ذراعها (  الحوثيين ) في اليمن، كما نرى ذلك في الحرب الجارية الآن.

ولأن استقرار دول القرن الإفريقي ذات الصِّلة، إرتريا، إثيوبيا، الصومال، جيبوتي، مهم لإدارة الحرب في اليمن، والتحكم عليها، دون أدنى شغب يعكر سيرها؛ فمن الطبيعي أن نشهد حضورا قويا لقيادة التحالف، ونرى اتفاقية السلام توقع، في دبي ثم جدة، من بعد أن وقعت في أسمرا.

وهذا من شانه أن يعطي انطباعا بأن لهذه الدول مساع سلام في المنطقة، وليس خوض حروب فقط.

ولكن التحدي هل سيتحقق هذا السلام فعلا؟ ، أم أنها مجرد تظاهرة إعلامية، ثم يعقبها انهيار؛ لكون الأمور لم تناقش بعمق، ولم تحل تعقيداتها بجدية أكثر، وبروية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، ولم يستوف السلام مستحقاته الضرورية بالكامل؟ ) انتهى كلام د. جلال الدين .

في الختام أقدم شكري للدكتور جلال الدين محمد صالح ، كما أشكر القاريء الكريم .

 

 
10-10-2018
Print this page.
http://www.al-massar.com