بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرى الاستقلال
ثورة تأكل شعبها
في ذكرى الاستقلال حكاية قصة شعب ذي فصلين ونقيضين ، أن ترى مستعمرا أجنبيا يبطش بالإنسان والأرض فهذا دأبه ونهجه ، لكن أن ترى ثورة تقلب عجلة التاريخ ، فتحول الاستقلال إلى إضطهاد وقهر ، حاملة راية المستعمر ، تزيد عليها أسى وشقاءا فهذا عجب ، قيل في مأثور الثورات أن الثورة تأكل أبناءها ، ولكن عندنا ثورة تأكل شعبها ، وعندما تنقلب ثورة على شعبها الذي مدها بالتضحية والغذاء ، وتجوب وتتقلب في حاضنته ، وما حققت من مكاسب إلا على جسده من دمه وعرقه ، فهذا ما سطره تاريخ الشعب الإرتري .
الاستقلال مطلب عزيز للشعوب الطامحة للحرية والخروج من نير استعباد المستعمر الغازي ، الذي يسلب الحرية وينهب خيرات البلاد ويذهب نعيمها . لكن استقلال وحرية الأرض والوطن وخروج المستعمر الغازي ركن ، وحرية الإنسان وعيشه بكرامة على أرضه الركن الثاني ، والاستقلال إذا فقد واحدا من هذين فقد معناه ووجوده .
في طي ذكرى الاستقلال آمال وأحلام جميلة ، كانت حادية للشعب في السعي والاجتهاد ، وتقديم الغالي والنفيس لنيله وتحصيله ، وفي طيها ذكرى آلام ومعاناة ومحن وظلم وظلام ودماء وتضحيات وبطولات شهدت بها الوقائع ، وتاريخ سطر بالعرق والدم ، تاريخ مجيد تستلذ الأجيال علي تناقله وتحيي أمجادها في ظلاله ، وتديم آمالها في كنفه . لكن ذكرى الاستقلال جمعت بين نقيضين وفصلين من تاريخ الشعب الإرتري ، ملؤها الأسى والآلام التي تتجدد وتتسع دائرتها وتصاغ قصتها المروعة .
بالاستقلال انتهى عهد المستعمر الإثيوبي وأنزل علمه ، وختم على نهاية الإمبراطورية وخرج الجندي ، وولت حقب المجازر والمذابح والحرائق التي طالت إرتريا إنسانا وأرضا وثروات ، وكانت خاتمة لسلسلة حملات عسكرية أولى وثانية وثالثة ... الخ ، حشد لها كل ما في وسعه الأبيض والأسود من العسكر من كوبا وروسيا وعدن ، ومن الآلة المجنزرة والمدمرة التي تشق الأرض وتقطع الحرث والنسل ، والمحلقة التي تغطي السماء وتعلو الآرض تخريبا وإرهابا ، تجعل الناس بين هالك وتائه في البرية ، يبحث عن مكان يجد فيه الأمان ويقيه شرها وبأسها ، وقد تفرق الأهل وفقد الأب والإبن ، قد يجتمعون وقد يأتي بعضهم إلى معسكرات اللجوء في بلاد الجوار القريب أو البعيد .
بخروج الجندي الإثيوبي وإخلائه لتراب الوطن وأرضه انتهي فصل من تاريخ معاناة الشعب الإرتري ، وبدأ فصل جديد بلون وطعم آخر من النكال والعذاب ، ووجه نقيض يحكي عن منحدر عميق وطور بليغ في ماساة الشعب ، الذي ظن أنه سيخلد إلى راحة وسكون وتذهب عنه أناته وزفراته ، ويلقي عنه أحمال ثقال ناء بها من سنين عجاف ، لكن كذبت حلمه الأيام التوالي ، وقد هجم عليها كابوس ففرقها .
تربع على عرش البلاد طاغية مستبد سرق البسمة والفرحة من وجوه وشفاه طال عليها ليل الظلم وجور السلطان ، وكبت زفراتها وزادها أسى ، وعصابة لم تستفد من سني النضال إلا تمرسا في ألوان من البطش والنكال ، كأنما كانت تستعد لمضمار تسابقه ولموعد تنجزه وقد فعلت ، ملأت الارض سجونا ومعتقلات وشقت أنفاقا وأخاديد لا لمشروعات تروي ، ولا لمزروعات تنبت ، ولا لخطة تنموية ، ولكن تملأها أكداسا من الناس ، لا ترحم صغيرا ولا كبيرا ، ولا تفرق أما ولا أبا ، يلفها الظلام والبؤس ، من دخلها لا يرجو نجاة ، ولا يدري قضيته ، يحكمه قانون العصابة . ضيقت هذه العصابة على الناس في كسبهم ومعاشهم ، وحبست صندوق مالهم ومصدر تجاراتهم التي يقتاتون بها تجريدا لهم من وسائل الحياة . كممت الأفواه ، وكتمت الأنفاس ، لا صوت يعلو فوق الطاغية ، وتحول جند الثورة إلى آلة للبطش والإرهاب بيد العصابة ، توجهها لتعميق قبضتها ونشر الخوف ، فاندفع الناس في هجرة واغتراب ، وبحث عن منافذ للخروج عن وطن لفه الشؤم والبؤس ، يخطط له الطفل الصغير قبل الكبير ، ويسر به الإبن عن أبيه والصاحب عن صديقه ، لا يأبهون بمخاطر ولا محن ولا موت ولا نجاة فمحنتهم أكبر من أن تطاق ، كأنما كتب على الناس الشتات والتفرق في الأرض ، وقد فاق ضحاياهم من نجي .
ترى من كان حاله هكذا كيف يجد طعم الذكرى وقد أنساه الأسى الأسى ؟ أم كيف يجد الفرحة وقد لفه الحزن والبلة ؟ أينما التفت لا يجد إلا ذكراها .
الشيخ / منصور طه