اللاهثون وراء السراب:
الثورات في عالمنا العربي والإسلامي تنشد الحرية والعدالة والكرامة إجمالا ولكن في كثير من الأحيان تنقصها المرجعية التي تنطلق منها لتشكيل المعاني التفصيلية لهذه الشعارات مما يجعلها تدور في فلك ذات المنظومات المتحكمة في المشهد العالمي بأدواتها المختلفة وينتهي المشهد بحالة من الاحباط واليأس والحديث عن عدم جدوى الثورة والتغيير والمشكلة في حقيقتها تكمن في تصورنا الخاطئ والواهم لإمكانية تحقيق العدالة في السلطة والثروة في ظل هيمنة الرأسمالية المتوحشة المتحكمة في أدوات الإنتاج وسوق العمل والمتحكمة كذلك في أدوات السلطة السياسية وأجهزتها كافة وفي الحقيقة فإن الدولة في ظل هيمنة الرأسمالية محليا ودوليا يستحيل عليها تحقيق العدالة في التوزيع وتلبية طلبات المواطنين أو تحقيق التداول السلمي للسلطة وذلك لأن الطلبات المجابة والتي تلبى من قبل السلطة هي طلبات أهل النفوذ وليس الطلبات القائمة على فلسفة الحق والعدل لأن الحقوق نفسها توضع وتحدد من قبل أهل النفوذ بأدواتهم التشريعية وبالتالي فإن المحصلة النهائية في النظام الرأسمالي المسربل بثوب الديموقراطية يزداد الأغنياء فيه غنى والفقراء فقرا وهو ما نشاهده حتى في الأنظمة التي رفعت شعار الإسلام في ظل ممارسة الرأسمالية الطفيلية وإدارة الاقتصاد من خلال ذلك .
وهذه الثنائية الطبقية( الأغنياء والفقراء ) المتصارعة بأدوات غير متكافئة في إدارة نظام سياسي باسم الديموقراطية هي التي جعلت أفلاطون يعترض على الديمقراطية في أثينا ويقول عنها:
إنها ليست دولة وإنما تجمع من البشر منقسم إلى شقين:
١/ شق الأثرياء
٢/ شق العوام
ويسيطر أحدهما على الآخر فيجعل اسمه الخاص اسما عاما للتجمع وهذا يعني عند أفلاطون أن الديمقراطية هي حكم الفئة لا حكم الشعب ومصلحة الفئة هي المعبر عنها بمصلحة الشعب والقانون هو التعبير السلطوي لمصالح الأقوى وليس الأحق وما أكثر التجمعات البشرية في أوطاننا تحت مسمى الدول .
وهذه المشكلة شغلت في واقعنا المعاصر بعض المفكرين الغربيين أمثال( جون رولز ) في كتابه (نظرية في العدالة ) .
وعندما تزداد الطبقية ويتفاوت الواقع المعيشي تفاوتا كبيرا يحصل الاحتقان المجتمعي المؤدي للثورات لإعادة الترتيب الطبقي المختل ويقابل ذلك مقاومة شرسة من أهل السلطة المهيمنة على الدولة وهنا يقع الصدام والثورة ونادرا ما يكون التغيير سلميا بحسب استقراء الواقع المشاهد في الثورات. وازدياد طبقة المترفين وتوسعها على حساب الطبقات الوسطى التي تحافظ على توازن المجتمع هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) الإسراء / ١٦ ومن معاني الأمر العظمة والاتساع كما جاء في قول أبي سفيان متحدثا عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من هرقل( لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر ) .
وخلاصة القول فإن الثورات كي تؤدي إلى نهايات مرضية لا بد من تبني فكرة ومرجعية مغايرة للمرجعية التي ثارت عليها الشعوب وليس هناك من مرجعية تحقق الحق والعدل إلا إذا كانت مرجعية متعالية ومحايدة وهذا لن يكون إلا بالاعتراف بوجود الله وحاكميته والإيمان بشريعته وكونها الفاصلة بين الخلق في كل خلافاتهم والمقررة للحقوق ليس بمنطق الأقوياء والضعفاء ولا الأغنياء والفقراء بل بمنطق الحق والعدل وهنا تضيق مساحات التفاوت الطبقي والصراع الناتج عن ذلك التفاوت قال تعالى: ( إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَاكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا)النساء/١٠٥
وبهذا الكتاب المرسل للناس كافة والمنزل من الله رب الناس كافة والمبلغ إلينا عن طريق الرسول الخاتم والمبعوث للناس كافة يكون التأسيس لدولة الناس كافة بعيدا عن منطقة التفاوت الطبقي والصراع لأجل الهيمنة على أدوات التحكم والسيطرة الذي يشكل رموزه أربابا من دون الله قال تعالى:
(قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ) آل عمران/٦٤
وستبقى البشرية في شقائها الروحي والمادي مادام أنها لا تستلهم هدايات الكتاب والسنة وتدور في فلك شهواتها ورغباتها وطغيانها وبغيها وعدوانها على بعضها وهي تحسب أنها تحسن صنعا قال تعالى:
﴿قُلۡ إِن ضَلَلۡتُ فَإِنَّمَاۤ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفۡسِیۖ وَإِنِ ٱهۡتَدَیۡتُ فَبِمَا یُوحِیۤ إِلَیَّ رَبِّیۤۚ إِنَّهُۥ سَمِیعࣱ قَرِیبࣱ﴾سبأ/٥٠
والحمد لله رب العالمين.
د.حسن سلمان
25/صفر/ 1441هجرية
24/10/2019 ميلادية