يبدو أننا أمام وضع يكاد يشكل ظاهرة عربية جديدة يمكن تسميتها بعهد ربيع الشعوب العربية كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين وهذا العهد تنتهي معه مقولات ظلت لفترة تتداولها الألسن من مثل مقولة أن العرب ظاهرة صوتية وأنهم خانعون ومستكينون ولا خبرة لهم بالثورات بل ولا استقرار للمنطقة إلا في ظل الاستبداد، كل ذلك يتساقط ويتهاوى وتبرز ظاهرة جديدة تنادي بالحريات والعدالة وحكم القانون وترفض الفرعونية وتأبى التوريث، كنت قد تساءلت في مقالي عن تونس الثورة عن مدى إمكانية أن تكون ثورة تونس ملهمة للشعوب العربية ويأتي الرد سريعاً من خلال ثورة الشعب المصري الذي ماكان النظام والمراقبون يتوقعون لها ثورة عاجلة نظراً للقبضة الحديدية والخبرة التأريخية في قمع التجمعات والتظاهرات ولحساسية الوضع المصري إقليمياً ودولياً وأن زلزال مصر لا يتوقف عند حدودها ، وباندلاع الثورة في مصر نكون أمام حالة سماها المفكر العربي عزمي بشارة (تونسة العرب) وهو الإلهام التونسي للشعوب بالثورات التحررية في ظل حالات الاحتقان السياسي والتفاوت الطبقي والفساد المالي وفقدان الأمل في الاصلاح الشامل في ظل النظم القائمة .
وفي ظل حالة ربيع الشعوب وزوال صيف الاستبداد نقف على المشهد المصري وفق هذه التأملات:-
- استخفاف القيادة المصرية بالشارع والإطمئنان الكامل والثقة المفرطة بقوة الأجهزة القمعية حيث كانت تصريحات المسؤولين تقول بأن الوضع في مصر مستقر والأوضاع مختلفة عن تونس وأن شباب مصر هو ليسوا شباب الفيس بوك ، وخلاصة القول هو مقولة فرعون (إن هؤلاء لشرزمة قليلون ) وتناست القيادة المصرية أن المكر ضد الشعوب يقابله مكر يؤدي إلى زوال النظم وإتيانها من القواعد ، قال تعالى (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لايشعرون ) كما أن هذا الاستخفاف منبعه العماية والغواية وانعكاسات شرور النفس وسيئات العمل،قال تعالى(إن الله لا يهدي القوم الظالمين )(إن الله لا يصلح عمل المفسدين )(أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) ، (ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) .
- تبدأ الثورة في مصر من الشباب في حركة (6 أبريل) وإعلانهم يوم الجمعة 28/يناير يوماً للغضب والثورة ويتجاوب الشارع المصري بكل فئاته مع هذا النداء وينزل إلى الشارع مطالباً بالتغيير متجاوزاً كل التهديدات التي أعلنتها الأجهزة الرسمية وقد اقتنع الشعب المصري أن أقصر الطرق لأسقاط الأنظمة الاستبدادية هو التظاهرات والاعتصامات والممانعة السلمية وبذات العنجهية القديمة تنزل الأجهزة القمعية لتفريق المتظاهرين بالقوة المفرطة وراح ضحية ذلك آلاف من الضحايا ولكن التجربة التونسية أثبتت ان الحرية لا بد لها من التضحيات وأن شجرة الحرية لا بد من أن ترتوي بدماء الشهداء كما أن التجربة مورثة لليقين فقد اكتسب الشعب المصري اليقين بزوال الطاغية مع الصمود وكما قيل التجربة خضراء والنظرية رمادية، فالحديث عن نظريات التغيير والتحولات في الشعوب كثيراً ما يكتنفها الغموض ولكن التجربة العملية كافية لإزالة كل لبس أو غموض في النظرية .
- ومن خلال التأمل في حركة الشعوب المتطلعة للحرية نلاحظ أن أهم عوامل نجاح الثورات أربعة وهي: القيادة الشجاعة التي تضحي بكل ما تملك ولا تتردد في خوض المغامرات واقتحام المخاطر والخطوب وهي دائماً شعارها: إذا كنت إمامي فكن أمامي، وهي أول من ينزل إلى ساحة النزال وآخر من ينسحب، وثانيها وضوح الرؤية والثبات عليها حيث كل ثورة لا بد لها من رؤية واضحة ومختصرة ويمكن التعبير عنها في كلمات موجزة مثل(يرحل الطاغية- يسقط النظام – نعم للحرية- لا للإستبداد- نعم للعدالة- لا للظلم ) ولا حرج لكل ثورة أن ترفع من سقوف مطالبها في إطارالرؤية حيث لكل رؤية حد أعلى وأدنى والحركة بحسب الإمكان، وثالثها التعبير عن تلك الرؤية والمطالبة القوية بها واستخدام الوسائل المؤثرة في بنية النظام وتفكيك أركانه ورابع هذه العوامل هو شعبوية الثورة وجماهيريتها وشمولها لكل فئات المجتمع وابتعادها عن النخبوية المختزلة والتي كثيراً ما تعطي انطباع بأن صراعها صراع مصالح وأطماع أو أيدلوجيا وأفكار لا تلامس نبض الشارع ولا تعبر عن مصالح وتطلعات الشعوب الحقيقية وهنا تتأكد نظرية ابن خلدون في ان المطالبة القوية المسنودة بعصبية العشائر والقبائل هي أساس التغيير.
وجماهيرية الثورة المصرية فوتت على النظام محاولاته لتصوير الثورة بأنها تحرك للإخوان المسلمين هذه الفزاعة التي ظل يلوح بها النظام كلما حس بهبة شعبية محاولاً كسب ود الغرب وتعاطفه، ولكن الإسلام الشعبي – إن صح التعبير- ظل سيد الموقف في أرض الكنانة حتى وإن توارى عن الواجهة الإسلام السياسي لأعتبارات موضوعية فقد راينا كيف أن شوارع القاهرة كانت تمتلئ بالمصلين في كل صلاة وترفع أكف الضراعة والدعاء لرب العالمين بزوال الطاغية وحكمه.
- إذا كان قد غاب الخطاب الديني في الوضع التونسي لإخماد الثورة وذلك بسبب سياسة النظام السابق في تهميش دور المنبر والمسجد والمؤسسة الدينية عموماً مما صعب معه الاستنجاد بالخطاب الديني في ظل حركة الثورة إلا أن الوضع في مصر كان مختلفاً جداً حيث المؤسسة الدينية الرسمية والشعبية حاضرة وفاعلة ولذا استنجد النظام بالخطاب الديني الموالي لإخماد ثورة الغضب غير أن الوعي الشعب كان فوق هذا الخطاب الديني المدجن فلا يمكن للإسلام الذي ينادي بالحرية ويحارب الاستبداد ويعري الظاهرة الفرعونية بكل تداعياتها أن يكون أفيوناً للشعوب في ثوراتها ومطالباتها بحقوقها مع العلم أن الظاهرة الفرعونية تاريخياً هى مزيج من التحالف السلطوي بين السياسة والاقتصاد والدين(المؤل- المبدل- الباطل) فقد كان سحرة فرعون يمثلون الحالة الدينية في ذاك المجتمع وهكذا في كل أنظمة الاستبداد يستند الطاغية على واجهة دينية أو فكرية ليبرر وجوده واستمراره قال تعالى حكاية عن فرعون:(إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
و كم كان جميلاً وجود الدعاة بين صفوف رواد الحرية والكرامة ومقاومة الاستبداد في ميدان التحرير أمثال عمرو خالد- المعروف بابتعاده عن السياسة وانشغاله بالدعوة- وقيامه مع شبابه (صناع الحياة) لحفظ الأمن وتقديم الخدمات ولا شك أن ذلك كان من أهم الاسهامات لاستمرارية الثورة وديمومتها وهنا يتأكد ما قاله أفلاطون في أن من يبتعد عن السياسة أو يزهد فيها فإنه يصطلي بلهيبها وذلك بأن يتسلط عليه من هو دونه وهذا شأن كثير من أهل التدين ممن آثروا الابتعاد عن السياسة وظنو أنهم بذلك في مأمن من لهيبها .
- من السنن الحسنة التي تحسب للجيش التونسي انحيازه للشعب وحفظه للأمن وتسجيله بذلك بطولة فائقة مع أنه بهذا السلوك أحرج كل الجيوش التي يمكن أن تقمع شعوبها وقد سار الجيش المصري على منواله وبذلك كان الجيش في خدمة الشعب والشعب في استقبال الجيش حفاوة وتكريماً وتلاحماً وأثبت ما ذكرناه في مقالنا عن تونس حول ضرورة تحييد الجيش وأن يكون حامياً للدولة وليس للنظام وبذلك نجنب البلاد الانهيارات المجتمعية ومع إشادتنا القوية بانحياز الجيش إلى الشعب والذي نأمل ألا يتحول عن هذا الموقف بسبب الضغوط الخارجية إلا أنه يبقى هنالك سؤال وهو لماذا خرجت الجيوش عن طوق الطاغية ورفضت أن تكون أداة قمعية في يده ؟
- ويتكرر نفس المشهد التونسي في رجال الأمن وهو أن يتحولوا إلى عصابات نهب وسلب وتخويف وإرهاب وفوضي وكأنهم غرباء عن الشعب المكلوم مع أننا ندرك أنها محاولة من النظام في خلق الفوضي حتى يجعل الثورة في حالة مقايضة رخيصة وهو(الاستقرار مقابل الاستمرار)مستفيداً من العقلية اليهودية في أن(الأرض مقابل السلام) ولكن الشعب المصري كان مدركاً وواعياً حيث قام بحفظ الأمن بنفسه وفي تناغم تام مع الجيش مستفيداً من التجربة التونسية وهنا نؤكد أن طريقة التفكير للأجهزة الأمنية في عالمنا العربي واحدة ويمكن أن تتكرر في كل بلد قال تعال(أتواصوا به أم هم قوم طاغون) .
- ويستنسخ النظام المصري مشهد النظام التونسي في المعالجات من حيث المضمون وهو محاولة التنفيس السياسي في التعاطي مع المطالب الشعبية وذلك بإجراء تغييرات طفيفة تتعلق بالشكل والأشخاص لا بالمضمون والنظام والسياسات فقد أعلن راس النظام المصري بعد أربعة أيام من العنف والإرهاب الذي مارسته أجهزة القمع في حكومته إقالة الحكومة وتعيين نائباً له ورئيساً جديداً للوزراء مع أن القوى السياسية ظلت تطالب بذلك طوال السنوات الماضية في مقابلة الرفض والتعنت المصحوب بتوقعات التوريث ولكن هذا الإعلان الأخير قوبل بمزيد من رفع سقف المطالب من التعديل إلى التبديل وذلك برحيل رأس النظام وهنا ندرك أن التوقيت المناسب يلعب دوراً كبيراً في عالم السياسة لأنها في حقيقتها (فن إدارة اللحظة) فما كان مطروحاً في ظل التعديل الآمن والانتقال المتدرج لنيل الحرية وتحقيق العدالة الانتقالية من قبل القوى السياسة لم يعد مقبولاً في ظل الثورة الشعبية التي تحس بأن سقف مطالبها قد تجاوز منهجية التعديل إلى عملية التبديل خاصة وقد أدرك الشعب بأن أزمة البلاد أكبر من التعديلات الوزارية التي وصفت بأنها تعديل في المدراء لا في الوزراء لأن السلطة حقيقة وبنص الدستور محتكرة للرئيس يستبد بها كما شاء ولا مجال فيها لمشاركة وزير مهما قويت شوكته، وهنا لابد من تسجيل ملاحظة هامة وهو أن الوعي والحراك المجتمعي متقدم كثيراً عن القوى السياسية ومطالبها فما كان من القوى السياسية إلا مجارات المجتمع ولو من باب الإنحناء للعاصفة والإبتعاد عن الوأد السياسي وهنا فقد النظام الحلفاء والنصراء من القوى السياسية، بل وجدنا قادة من النظام يصرحون تصريحات لا يكاد أحد يصدق بها حيث (أقبل بعضهم على بعض يتلاومون) وكان في ذلك مؤشر واضح بأنه قد أزفت ساعة الرحيل والشعوب تدرك ذلك بحاستها السادسة .
- وفي الحالة المصرية يبرز بوضوح قدر الجغرافيا وتداعيات التاريخ وضرورات السياسة بكل تعقيداتها فقد شاهدنا جميعاً كيف ارتبك الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية في التعاطي مع الحالة المصرية فهو ما بين رعاية المبادئ والقيم التي يرفعها كشعار للعالم كالحرية والعدالة والمساواة وما بين مصالحه التي تتطلب الاستقرار حتى ولو سكت عن النظم الدكتاتورية وكبتها لشعوبها، ولذلك شكلت في الولايات المتحدة الأمريكية غرفة عمليات ترصد عن كثب تطورات الوضع الميداني وتقدم المعالجات أولاً بأول لتخرج برأي تجمع فيه بين تطلعات الشعب ورعاية المصالح وتضمن في ذات الوقت بديلاً يراعي أمن إسرائيل ويبرز هنا التحدي بوضوح أمام الثورة الشعبية أن مصر ليست كأي دولة عربية وأن سقوط نظامها سيصيب بشظاياه عروشاً كثيرةً في المنطقة العربية والتعاطي مع هذا الواقع يتطلب وعياً وإدراكاً سياسياً يوازن بين مطالب الذات وتطلعاتها وتأثيرات الموضوع وتداعياته وفي إطار الموازنة بين الذات والموضوع يكمن المشكل السياسي .
- أثبتت الأحداث في كل من تونس ومصر حاجتنا لفقه حضاري جديد يقوم على المبادرة المجتمعية المرتكزة على محكمات الشرع ومكنونات الفطرة السليمة تأصيلاً للحرية وتنديداً بالإستبداد وبحثاً عن الآليات الشعبوية لتغير منكر الحكومات وخروجاً عن مفهوم الفتنة الذي ارتكز عليه العقل الفقهي في تأريخنا مما نتج عنه تكبيل المجتمات وارتكاس فطرها ليسيطر علينا مفهوم الرضى بكل منكرات السلطة تحت ذريعة طاعة ولي الأمر لنجد أنفسنا أمام حقيقة الفتنة ذاتها(ألا في الفتنة سقطوا) وهل من فتنة أعظم من الفرعونية المدعية لكل صفات الرب جل جلاله والمدمرة لإنسانية الإنسان؟ (فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة)وبذات فقه درء الفتن تم قبول الإحتلال في ظل طاعة ولي الاستبداد وانهارت القيم وسادت المظالم وصار الفقر سيد الموقف وأحيطت عواصمنا ببيوت الصفيح رغم وجود الموارد الهائلة كل ذلك بسبب سوء التوزيع وغياب العدالة واستئثار القلة المتحكمة على الموارد والمؤيدة بفقه التبرير والتأويل ودرء الفتن ففي بلد مثل مصر أكثر من 40% من سكانه تحت خط الفقر ويسطر أقل من 20% على أكثر من 60% من الدخل القومي ويصعد الخطباء بعد ذلك على المنابر ليعلنوا للمصلين بأنهم السبب فيما يجري دون تحميل السلطات أدنى مسئولية في ذلك فتعيش الشعوب بين سندان السلطة ومطرقة الدعاة يشكون إلى الله ظلم الطواغيت المتجبرين وأحبار السوء المتأولين وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
وختاماً يبقى السؤال قائماً: ربيع الحرية هل يزيل صيف الإستبداد !!؟