قراءة في كتاب فقه المشاركة السياسية بين التأصيل والممارسة للدكتور أبو البراء حسن محمد سلمان
الحلقة الثانية
بقلم: أبوالحارث المهاجر
بعد مقدمة للكتاب الذي وقفنا عليه في الحلقة السابقة سوف نتابع مضامين الكتاب حيث يبداء المؤلف بالدخول في فصل تمهيدي تحت عنوان ( التصور الإسلامي لمسائل الربوبية والحاكمية والعبودية والإستخلاف ) تحت أربعة مباحث وهي مفهوم الحق ، ومفهوم الخلق ، ومفهوم الحكمة (الأمر) ، ومفهوم المصير (الصيرورة ).
وفي توضيح الرؤية لتصور الإسلامي يقول المؤلف ( إن التصور الإسلامي لا يخرج في مضمونه الحضاري عن قضية الحق والخلق ، والأمر والمصير ، وعليها مدار النصوص الشرعية قرآناً وسنةً). ويستدل في ذلك بعدة آيات مع بيان وتوضيح تفسير أهل العلم مثل بن كثير والسعدي. ومن خلال تلك الإستقراء مع الآيات وأقوال أهل العلم خلص المؤلف إلى المفاهيم الأساسية المتمثلة في مفهوم الحق ، ومفهوم الخلق ، ومفهوم الأمر (الحكمة) ، ومفهوم المصير.
ثم أفرد المؤلف للمفاهيم الأساسية حيزاً واسعاً وتحدث بإسهاب مستدلاً كعادته بالنصوص الشرعية. وحول مفهوم الحق يقول المؤلف (ينطلق التصور الإسلامي حول الذات الإلهية من حقيقة أن الله هو الحق المطلق في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وأنه الواحد الصمد الذي لا ند له ، ولا نظير ، ولا شبيه). ثم تناول تحت مبحث مفهوم الحق عدة مطالب وهي توحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وتوحيد الألوهية.
وبعد التفاصيل التي تطرق إليها المؤلف على التصور لذات الإلهية وما يتعلق بها من الأسماء والصفات وأفعال وذلك لتأسيس النظرة الكلية للحياة ودور الإنسان فيها التي تشمل المنهجية التي تحكمه ، حيث خلص المؤلف بمقولة رائعة جداً عندما يقول (فإن مفهوم التوحيد هو الأرضية التي نبتت عليها شجرة العدل ، كما أن الشرك هو الأرضية التي تنبت عليها شجرة الظلم). فكيف نوفق في مفهوم أن الشرك هو الأرضية التي تنبت شجرة الظلم مع وجود العدل عند الكفار المشركين ؟ العدل الذي للكفار هو العدل العام الفطري وليس العدل الشرعي وبالتالي يبقى العدل عندهم ناقصاً مهما كان كما يبقى عدلاً محصوراً بالبشر ويبقى الظلم الأكبر فيهم وهو الشرك بالله كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وهذا يقودنا إلى القول بأن العدل يعزز للإنسان المشاركة في بناء الحياة الإنسانية الكريمة كما أشار إليها المؤلف بقوله (والمشاركة فرع العدل ، والاستبداد فرع الظلم ، ومبتدأ المشاركة بين الخلق هو وحدانية الخالق ، ووحدانية المعبود، وحاجة الخلق جميعاً إلى الله ، لأنه هو الغني وحده والخلق جميعاً إليه فقراء ، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
يوضح المؤلف مفهوم الخلق وفق التصور الإسلامي بأن الإنسان كائن مكرم عندالله ذو مركز عظيم في تصميم الوجود وهو كائن يتعامل مع الكون كله ومن فيه وما فيه ، ويبين المؤلف بأن الإنسان بحسب تكوينه الذاتي فهو مستعد أن يرتفع إلى أرقى من آفاق الملائكة المقربين ، وينحط إلى أدنى دركات الحيوان البهيم. وبناءاً عليه خرج المؤلف بخلاصة في مفهوم الخلق مفادها إن حقيقة الألوهية تقوم على الوحدانية ، وتقوم حقيقة الخلق على الزوجية ، ولهذه الحقيقة دلالات عظيمة ومفاهيم أساسية في قضية المشاركة السياسية التي هي مدار بحث الكتاب.
في مفهوم الحكمة بعد تعريفه يشير المؤلف إرتباط مفهوم الحكمة والأمر إرتباطاً لا فكاك عنه بمفهوم الخلق والخالق ، كما أن مفهوم الحكمة والأمر هو مقتضى الصفات الإلهية. حيث ينطلق التصور الإسلامي في نظرته للكون والحياة والإنسان من مفهوم الحكمة والغائية المستلزم للشرائع والرسالات النافية للعبثية أو تحكم الطبيعة والأهواء. كما يبين المؤلف بأن مفهوم الحكمة والأمر هو مقتضى الصفات الإلهية.إتسم الأمر الإلهي بخاصية الرحمة والتيسير ، ويرى المؤلف بأن الرحمة من لوازم الربانية ، والتيسير فرع الرحمة والرحمة أصل ، والعدل فرع عنها ، والعدل يقتضي المشاركة لأنه نقيض الظلم والاستبداد والتسلط ، الذي هو منشأ الشر وأصل الفساد في العالم. كما يتميز الأمر الإلهي الشرعي بالتمام والكمال والعموم والشمول في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب والسلوك والأخلاق وكافة المطالب المادية والروحية.تعد الوسطية من أهم الخصائص والسمات لطبيعة الأمر الشرعي في الرسالة الخاتمة حيث يشير المؤلف بأن الوسطية من لوازمها التوازن في الأحكام الشرعية توازن بين الروح والجسد وبين المظهر والمخبر وبين العقل والعاطفة. كما يبين المؤلف بأن الوسطية من لوازمها الواقعية في منهج هذ الدين من حيث إنه حركة تواجه واقعاً بشرياً بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي أي أنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية. ويخلص المؤلف إن الأمر الإلهي كامل وشامل وعام يشترك في التكليف به كافة الخلق من الجن والإنس من العقلاء تحقيقاً للعبودية وأداءً لواجب الاستخلاف وتحقيق العمران في الأرض.
في المبحث الرابع في التصور الإسلامي يتناول المؤلف مفهوم المصير (الصيرورة) وبها تكتمل حلقات التصور الإسلامي (الحق والخلق والأمر) حيث يعرف المؤلف مفهوم المصير وهو الرجعى والمنتهى إلى الله وذلك في يوم القيامة المعبر عنه في أركان الإيمان باليوم الآخر. وهذا المفهوم يجعل للحياة معنى وغاية، ويخرجها من دائرة العبثية إلى دائرة الحكمة ، بتحقيق مقتضيات جملة من أسماء الله الحسنى . وهذا المفهوم ايضاً له علاقة مباشرة بمفهوم المسؤولية في الإسلام والقائمة على أساس المزاوجة بين المسؤولية الدنيوية والمسؤولية الأخروية .
خلاصة رؤية المؤلف حول التصور الإسلامي وعلاقته بموضوع البحث أن الخلق والناس على وجه الخصوص متساوون في أصل الخليقة فهم خلق الله جميعاً ومتساوون في المنشأ لأنهم من طين الأرض ونفخة الروح ومتساوون في الإنسانية لأنهم من آدم ومتساوون في أصل التكليف والعبادة، لأنهم مخاطبون بالأمر الشرعي، ومتساوون في المصير لأنهم جميعاً صائرون إلى الله ، وعلى هذه الأسس والكليات تنشأ فلسفة المشاركة.
يتبع في الحلقة القادمة