| 
 
 |  23 Nov 2024
الثورة العربية والحكم الراشد : بقلم / د. حاكم المطيري
29/05/2011
1622
 

 

تعد الثورة العربية أجل حدث وأعظمه في تاريخ العرب المعاصر، بل هي من الملاحم الكبرى التي لا عهد للأمة بمثله إلا في ثوراتها على الاستعمار الأجنبي في القرن الماضي، وتكمن خطورة الثورة العربية المعاصرة في اتساع خريطتها الجغرافية فهي تمتد من الخليج إلى المحيط في مساحة 14 مليون كيلو متر مربع، وفي اتساعها الديمغرافي فهي ليست ثورة شعب في قطر كما حصل في السودان ضد النميري، إذ ظلت ثورة سودانية قطرية، بل هذه الثورة ثورة أمة يبلغ تعدادها نحو أربعمائة مليون نسمة، كما إنها تقع في منطقة هي الأهم والأخطر عالميا من حيث سيطرتها على الممرات والمضائق المائية، ومن حيث كونها الأغنى بمواردها وثرواتها خاصة النفطية، فهي شريان النفط للعالم كله، ومن حيث إنها منطقة تحد حضاري تاريخي للغرب الاستعماري!

وما زالت الثورة العربية في بداياتها حتى في الدول التي جرت فيها ونجحت كتونس ومصر، أو التي ما تزال تجري فيها كليبيا واليمن وسوريا والمغرب والجزائر، أو التي تعيش إرهاصاتها ومخاضها كالسعودية والأردن وعمان ودول الخليج الأخرى..

وتحتاج هذه الثورة إلى عقد من الزمن حتى تؤتي ثمارها وتحقق أهدافها المرحلية..

وإذا كانت هذه الثورة قد أشغلت العرب بل والعالم كله إعلاميا وسياسيا وثقافيا، فإن ما بعد الثورة سيكون الأشد خطرا والأعظم أثرا، ألا وهو تشكل النظام العربي البديل بعد سقوط النظام القديم برمته..

وإذا كانت هذه الثورة شعبية جماهيرية قامت بها الأمة بكل مكوناتها وفئاتها وطبقاتها وتياراتها، وشارك الجميع في صناعتها، فإن لكل ذلك استحقاقاته التاريخية التي لا يمكن تجاوزها، فليست كالثورات العربية التي قامت في وسط القرن الماضي، إذ تلك انقلابات عسكرية لم يكن للشعوب يد فيها، فكان لها استحقاقات لمن بادروا بها وكان للقوى الدولية آنذاك يد فيها، وكانت الأمة خارج نطاق التأثير في مجرياتها ومآلاتها التي انتهت إليها..

إن الثورة اليوم تواجه تحديات تاريخية كبرى، وإرثا خلفته لها أنظمة حكم فاسدة، بل عصابات إجرامية، اختزلت الشعب ومصالحه والدولة كلها بمؤسسة الحكم، ثم اختزلت السلطة بالحزب والمجموعة والجماعة والقبيلة الحاكمة، ثم اختزلت كل ذلك بأسرة الرئيس والملك والشيخ، وانتهت إلى استفراد مطلق بأيدي طغاة كانوا أشد خطرا على الأمة من عدوها الخارجي، حيث فرطوا في سيادتها وكرامتها واستقلالها وثرواتها واستقرارها مقابل بقائهم في السلطة!

لقد قامت الثورة وما تزال وستظل إلى أمد تتأجج بكل عنفوانها حتى تستقر على شاطئ الحرية والكرامة والعدالة التي ثار الجميع من أجل تحقيقها، وهو ما يوجب على الجميع بلورة رؤية مشتركة للنظام البديل، يحقق لها ما تصبو إليه من إصلاح أنظمة الحكم، وإقامة حكومات راشدة..

الحكم الراشد ومعاييره :

إن هناك إجماعا شعبيا عربيا على ضرورة أن يكون البديل هو إقامة نظام حكم راشد، إلا إن للرشد ملامحه ومواصفاته التي يمكن تحديدها بكل دقة للحكم على النظام القادم البديل بأنها توفرت فيه أم لا، وما مدى الرشد الذي تحقق في آلياته وممارساته..

كما إن من حق كل تيار سياسي وفكري أن يطرح تصوره للرشد بحسب المرجعية التي يؤمن بها، وأن يعرضها على الأمة التي اشتركت كلها في صناعة الثورة، ولها الحق في القبول أو الرفض.

وقد حدد الإسلام في خطابه السياسي القرآني والنبوي والراشدي معايير للحكم الراشد، وأوجب على الأمة التمسك بها، فهي في حق المسلمين واجب يجب عليهم الإيمان بها والعمل من أجل تحقيقها، كما في الحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي بحق غير المسلمين من الأمة تجربة عربية إنسانية يمكن الاستفادة منها، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسننهم في العدل وإدارة شئون الأمة إرث للإنسانية كلها عامة، وإرث للعرب كلهم مسلمهم ومسيحيهم خاصة، فإذا ذكر العدل ذكر عمر، ويمكن للعقل البشري أن يحكم بصحة هذا السنن أو عدم صحتها، وبصلاحيتها أو عدم صلاحيتها، فهي مما يتوافق عليه العقول البشرية والشرائع السماوية!

فليست سنن الحكم الراشد أمرا دينيا محضا لا يمكن أن يستفيد منه إلا المسلمون، بل هي سنن معقولة المعنى، يمكن اختبارها وتجربتها، ومن ثم الحكم لها أو عليها، فهي تجربة سياسية واقعية وليست خيالية، ولها أسسها وممارساتها علمها من علمها وجهلها من جهلها!

وكونها سننا يعني أنه يمكن تطبيقها والعمل بها كلها أو بعضها بحسب الإمكان كما في الحديث (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)..

ومن أهم ملامح الحكم الراشد تحقيق الأهداف التي جاءت الثورة لتحقيقها وهي الحرية والكرامة والحياة الكريمة للإنسان العربي وذلك من خلال :

أولا : تجلى إرادة الأمة الحرة في اختيار نظام الحكم وطبيعته، ومن يحكم وكيف يحكم، وأن تمثل السلطة فيه اختيار الأمة ابتداء وانتهاء، فلا يحكمها إلا من انتخبته الأمة انتخابا حرا مباشرا، ولا يسوس شئونها إلا من ارتضته ورضيت به، وأن يكون ذلك عن أمر جلي لا يكون عرضة للعبث، وهو ما يقتضي :

1- الاتفاق على عقد اجتماعي وسياسي جديد يعبر عن الثورة وتطلعات الأمة، من خلال وضع دساتير جديدة، تنظم عملية الوصول للسلطة بكل شفافية، وتصون الحقوق والحريات العامة والخاصة، كما فعل النبي صلى الله عليه حين دخل يثرب بعد بيعة العقبة الثانية، فكان أول عمل قام به أن كتب صحيفة المدينة التي حفظ فيها الحقوق لكل مكونات الدولة الجديدة، وحدد المرجعية السياسية، وصان الحرية الدينية، وكفل الحقوق الفردية..الخ ثم حصن ذلك كله بقوله (وإن هذه الصحيفة لا تحول دون ظالم)، فلا مجال لتفريغ الوثيقة من مضمونها، أو الاحتجاج بها على نقيض مقصودها من إقامة العدل والقسط، بالتعسف أو التأويل أو التحريف!

كما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان عن مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليؤكد بأن العلاقة بين مكونات المجتمع الجديد تقوم على أساس الأخوة وعلى أساس المواطنة وتساوي الجميع في الحقوق وأمام القضاء، لا كما كان عليه الحال في المجتمع الجاهلي الطبقي، فلا عصبية جاهلية ولا طبقية ولا عنصرية قومية فسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي كعمر القرشي!

وسيكون اليهود أمة مع المؤمنين للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، على أساس من الحرية والمواطنة {لا إكراه في الدين}، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بذلك عصرا جديدا للعرب خاصة، وللعالم كافة، هو عصر (المدينة) بعد (يثرب)، حيث سيقوم مجتمع المدينة والمدنية والحضارة والإنسانية، فلا استبداد ولا طغيان ولا ظلم للإنسان، بل عصر جديد يفتتح بصحيفة المدينة أول دستور وعقد اجتماعي عرفته الإنسانية!

إن الدساتير العربية اليوم أعجز من أن تفي بغرض المجتمع العربي المعاصر، بل هي منذ تم وضعها وهي تستلب الأمة أحق حقوقها السياسية، باسم الإسلام تارة كما في نظام الحكم والدستور السعودي، الذي يجعل حق اختيار رئيس الدولة حكرا على الأسرة الحاكمة دون الشعب كله باسم الإسلام والسنة، أو الدستور الكويتي الذي يكرس كل صلاحيات السلطة في يد رئيس الدولة فهو رئيس السلطتين التنفيذية والتشريعية باسم (نظام الحكم ديمقراطي والأمة مصدر السلطة)، أو الدستور السوري الذي يجعل السلطة حكرا على حزب البعث باسم الشعب وطليعته الثورية..الخ

وكلها دساتير تكرس الاستبداد وحكم الفرد تحت ذرائع باطلة تجاوزها العصر، فليس أمامها إلا الإصلاح أو السقوط!

2- إقرار التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة لا من خلال النص عليها بالدساتير فقط، بل من خلال الممارسة الحقيقة لها على أرض الواقع، ليكون الواقع أصدق شاهد على مدى التزام السلطة بإرادة الأمة، واحترامها للدستور والعقد الذي بينها وبين الأمة، وإلا ستبقى الدساتير حبرا على ورق لا تغني ولا تسمن من جوع، ما لم يكن هناك تداول سلمي للسلطة، وهو ما تقرر في أصول الخطاب السياسي الراشدي، بإجماع الأمة، لقوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم}، وقد قال عمر (الإمارة شورى)، وقال (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه تغرة أن يقتلا) وفي رواية (فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه)، فكل اغتصاب للسلطة باطل ومحرم وغير مشروع، ولا شرعية لنظام لا تختاره الأمة عن طريق التعددية والتنافس المشروع، وقد تنافس الستة الذين رشحتهم الأمة لعمر رضي الله عنه، وكان الحكم والفيصل بينهم إرادة الأمة آنذاك حتى قال عبد الرحمن بن عوف وقد استشار الناس ثلاثة أيام حتى سأل النساء في خدورهن في شأن عثمان وعلي (يا علي إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحدا، فلا تجعل على نفسك سبيلا)، وكل الخلفاء الراشدين تولوا السلطة باختيار الأمة وإرادتها بلا إكراه ولا إجبار، بل ولم يكن أحد منهم يستطيع ذلك، بمحضر الأنصار وهم أهل المدينة وأصحاب الشوكة والكلمة، فكان أمر السلطة بالشورى والرضا، لا بالتفويض الإلهي، ولا بالسيف والقوة، ولا بالمال السياسي، فالسلطة في النظام الراشدي سلطة مدنية، تختارها الأمة بإرادتها ورضاها وشوراها، كما قال أبو بكر (إني وليت عليكم ولست بخيركم)!

3- وأن يتم إصلاح مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية حتى تعبر فعلا عن إرادة الأمة ونفوذ سلطانها على الجميع، فقد غابت مؤسسات الدولة في أعرق نظام عربي وهو النظام المصري، فتم اختطاف السلطة التشريعية وتزوير إرادة الشعب المصري، حتى وصل التزوير نسبة 97% فجاءت الثورة المصرية لتكشف مدى الفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة العريقة، وغاب القضاء المصري العريق، وشلت يده وقدرته عن محاسبة المفسدين مدة ثلاثين سنة، في مشهد يؤكد بأن الحديث عن استقلال القضاء والفصل بين السلطات، حديث خرافة في ظل فساد الحكم، وفي ظل غياب إرادة الأمة، إذ كل السلطات تختزل في عصور الاستبداد لتصبح أداة في يد الطاغية باسم الشعب وباسم الدستور وباسم صناديق الاقتراع!

إن الفصل بين السلطات هو سنة راشدة ابتدأها أبو بكر الصديق فجعل عمر على القضاء، وجعل أبا عبيدة على بيت المال، لتشترك الأمة كلها في إقامة العدل في القضاء والعطاء، والرقابة على بيت المال!

4- سيادة النظام على الجميع، ووقوف الجميع أمام القضاء على قدم المساواة، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وشريف ووضيع، وغني وفقير، حتى لا يشعر أحد بأي تمييز أو تهميش، كما في الحديث (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).

فالغاية من الإصلاح السياسي ابتداء من وضع عقد اجتماعي ودستور جديد، وإقرار للتعددية والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وسيادة النظام على الجميع، كل ذلك هو من أجل صون حرية الإنسان وحقه في اختيار من يمثله في السلطة التنفيذية والتشريعية، دون وصاية من أحد على أحد، ودون تدخل من أحد، وكذا ضمان حقه في العدل والمساواة، فإن تحقق ذلك وإلا كانت كل تلك الآليات وسائل لا معنى لها في غياب الهدف والغاية وهو صون الحرية للإنسان وللأمة!

ثانيا : استعادة سيادة الدولة واستقلالها عن النفوذ الأجنبي، فقد بلغ الحال في العالم العربي أن أصار المواطن من المحيط إلى الخليج يشعر بوصمة عار في جبينه حين يرى دوله لا وزن لها في العالم من حوله، بل تحولت إلى أدوات لتنفيذ مشاريع القوى الدولية والإقليمية المتصارعة في المنطقة، ففقد الموطن العربي الشعور بالفخر الذي هو أهم أسس الشعور بالمواطنة، وهو ما جعل العرب في كل قطر يعيشون في حالة اغتراب غير مسبوقة في أوطانهم، فمن يحكمهم لا يمثل إرادتهم بل يمثل إرادة الأجنبي، ولا يشرفهم الانتماء إليه ولا إلى الوطن الذي تحكمه هذه الأنظمة العميلة الخائنة لشعوبها وأوطانها، دون أن تشعر حتى بخيانتها لهم!

وقد تجلى ذلك في أبشع صوره في موقف نظام حسني مبارك ودول الاعتدال التي شاركت في حصار وحرب غزة، حتى خرجت وزيرة الخارجية الإسرائيلية لتقول للعالم بأن إسرائيل وعرب الاعتدال في خندق واحد لمواجهة التطرف!

وقد بلغ الحال من فقدان الدول العربية لسيادتها واستقلالها أن اعترف بعض الرؤساء بأنهم عبارة عن موظفين صغار للولايات المتحدة! كما اعترف بذلك الرئيس اليمني للمشايخ والوجهاء في جلسة خاصة لتبرير تعاونه مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب!

إن أهم ملامح الحكم الراشد هو استعادة السيادة المفقودة، تلك السيادة التي يمثل غيابها نتيجة طبيعية في ظل تنامي الفجوة بين الشعوب وحكوماتها، وشعور الحكومات بحاجتها للأجنبي لحماية عروشها غير الشرعية، وهذا بخلاف الأنظمة التي تختارها الشعوب وتقف خلفها لمواجهة أي نفوذ خارجي، فهي تستمد شرعيتها من الأمة لا من العدو!

إن حماية الدولة وصيانة سيادة الأمة هو أول واجبات السلطة كما في الحديث (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه)، فالسلطة درع وجنة تقف الأمة من ورائها وتقاتل معها وعنها.

ولهذا السبب عرف الفقهاء قديما دار الإسلام بالشوكة لا بالأحكام، فالدار التي تكون الشوكة فيها للأمة والكلمة واليد العليا فيها لها هي وطن ودار للإسلام، كما كانت المدينة النبوية، فكانت دار إسلام بتحقق الشوكة والمنعة للأمة فيها، لتقيم فيها أحكام دينها والعدل الذي جاء به نبيها.

وكما قال ابن تيمية (ليس أوجب بعد الإيمان بالله من دفع العدو عن أرض الإسلام فإن ببقائه لا يبقى دين ولا دنيا)!

فالعناية بقوة الدولة أولى وأوجب، فإذا قويت الأمة قوي الإسلام، وإذا ضعفت ضعف، وما كان لتركيا أن تعود إلى المسرح الدولي من جديد بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، لولا استعادتها لقوتها وسيادتها واستقلال قرارها، وما كان ذلك ليتم لها لو كانت ضعيفة عسكريا واقتصاديا، كما قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}..

فكان من أهم ملامح الحكم الراشد قدرته على حماية سيادة الدولة واستقلالها، والاستغناء عن أي دعم خارجي عسكريا كان أو اقتصاديا أو سياسيا.

ثالثا : تحقيق النهضة والتنمية في جميع المجالات، وهو حجر أساس مشروعية استمرار السلطة حتى وإن كانت شرعية في إدارة شئون الدولة، إذ المقصود من انتخاب السلطة هو إدارتها لشئون الدولة، فإذا فشلت في ذلك فقد استحقت العزل والتغيير!

والإمارة ولاية ومسئولية كما قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقد جاء في الحديث (يا أبا ذر لا تسأل الإمارة فإنها أمانة وإنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من أداها بحقها) فسمى الإمارة أمانة إذ هي أصل الأمانات!

وقد فقدت الحكومات العربية الفاعلية السياسية، لغياب الكفاءات القادرة على إدارة شئون المجتمع، كفاءة القوة والقدرة وكفاءة الأمانة والنزاهة، وهو ما أدى إلى تخلف الدول العربية، وانهيارها في كل المجالات، حتى باتت دولا فاشلة، أو آيلة إلى الفشل والسقوط، وزادت نسبة الفقر والمرض والبطالة والأمية حتى تجاوزت معدلاتها حدا غير مسبوق، ولهذا كان من أهم ملامح الحكم الراشد لتحقيق النهضة والتنمية :

1- حماية المال العام وصيانته من النهب والإهدار، فلا يمكن تحقيق تنمية في ظل النهب المنظم للمال العام، وفي ظل تحول ثروة الأمة ودولها إلى الخارج بأسماء أفراد الأسر الحاكمة.

وقد كان الصحابة هم من حدد راتب أبي بكر من بيت المال فلما حضرته الوفاة رد ما زاد عنده فقال عمر(لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر) وكذا فعل عمر!

فليس لهم أن يتصرفوا قي مال الأمة إلا بإذنها ورضاها كما في الحديث (إنما هو مال الله الذي أفاء عليكم فإن رضيتم وإلا فهو لكم) فلا يؤخذ منه شيء ولا يتصرف فيه إلا بإذن الأمة.

وليس لهم أخذ هدية وهم في الوظيفة العامة بل يجب رد حتى الهدية للرئيس إلى بيت المال كما في الحديث (من أهدي إليه شيء فليأت به) ولا يقاس أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الخلفاء الراشدون يردون ما أهدي إليهم لبيت المال ورد عمر بن عبد العزيز على من احتجوا بقبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية فقال (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهي لنا اليوم رشوة)!

2- العمل على استرجاع كل ما تم نهبه طوال العقود السابقة من البنوك الخارجية، وهي ثروة تقدر بالترليونات، وهي أخطر مشكلة ستواجهها أنظمة الحكم الراشد بعد الثورة العربية، فليست هذه الثروة بالأمر الذي يمكن تعويضه لغض الطرف عنه، ولهذا كان استرجاعها أول خطوة على طريق الإصلاح الاقتصادي والتنمية الشاملة.

وقد رد الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز مظالم بني أمية وما أخذه أمراء الجور إلى أصحابه إن عرفهم، أو إلى بيت المال، مع أن بعضه مضى عليه نصف قرن، فالحقوق لا تسقط بالتقادم، وكما في الحديث (ليس لعرق ظالم حق)!

ولهذا كان إعفاء الرئيس اليمني عما سلف منه من جرائم خاصة ما نهبه من مال الشعب جريمة لا تغتفر بحق من وقعوا المصالحة لفقدهم الشرعية للتنازل عن حقوق الشعب!

وليست الدماء كالأموال فإن الدم حق خاص لأولياء المقتول فإذا عفوا عنه فلهم ذلك بخلاف المال العام للأمة لا يصلح التنازل عنه بل يجب رده للأمة.

3- توجيه الطاقات لتطوير الاقتصاد وفتح أبواب الاستثمار لنقل وتوطين الصناعة، وتدارك ما فات الدول العربية خلال نصف قرن من فرص تاريخية للنهضة الصناعية والتكنولوجية، التي وصلت إليها دول إسلامية أخرى كتركيا وماليزيا واندونيسيا، فضلا عن دول العالم المتقدم صناعيا.

4- تطوير البنية التحتية، وتأمين الطرق والمواصلات والطاقة، وتوفير الرعاية السكنية والصحية والخدمات للجميع.

5- تأمين فرص العمل ومعالجة مشكلة البطالة، واستثمار الإنسان وتنمية قدراته ومهاراته وتوفير فرص التعليم والتدريب والإعداد لسوق العمل.

وقد حدد الخطاب الإسلامي السياسي النبوي والراشدي أهم مسئوليات السلطة والدولة تجاه مواطنيها، كما في الحديث (من ترك كلا أو عيالا فإلي وعلي)، وقال (من عمل لنا عملا فليتخذ له زوجة إن كان أعزبا، ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا، وليتخذ دابة وظهرا إن لم يكن له مركب)، وقال (من بات آمنا في بيته، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) !

فدل كل ذلك على الحد الأدنى الذي يجب على السلطة توفيره للإنسان، لتحقيق الحياة الإنسانية الكريمة له، ابتداء من توفير فرص العمل له، وتيسير الحياة الزوجية والأسرية لكل شاب وأعزب، وتأمين السكن لكل أسرة، وتأمين الغذاء والدواء والرعاية الصحية، وتوفير وسائل النقل، وتحقيق الأمن والطمأنينة والاستقرار النفسي والأسري لكل فرد في المجتمع.

رابعا : تحقيق حالة السلم والأمن الاجتماعي لجميع مكونات المجتمع، على اختلاف فئاته، دينية كانت أو قومية، وقد أججت الأنظمة العربية الفتن الداخلية في كل مجتمع عربي، لحماية نفسها على حساب استقرار شعوبها، وقد كان نظام حسني مبارك وراء الفتن بين المصريين مسلميهم وأقباطهم، وكان النظام اليمني وراء الفتن بين جنوب اليمن وشماله، وكان النظام العراقي العميل للاحتلال وراء تفجير الداخل العراقي وإثارة الفتن الطائفية بين مكونات الشعب العراقي الذي لم يعرف طوال تاريخ العراق الحديث فتنة بين السنة والشيعة، وتقوم دول الخليج اليوم بإثارة الفتن الطائفية لقطع الطريق على الإصلاحات الداخلية..الخ

فأصبحت المجتمعات العربية في ظل الأنظمة الفاسدة في حالة استنفار دائم وافتقاد للسلم الأهلي، حيث تم تلغيم المجتمعات بألغام تقضي حين تفجيرها على الأخضر واليابس، مما يؤكد خطورة بقاء الاستبداد وسياساته الفرعونية التي تقوم على تمزيق المجتمع من الداخل {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}، وعلى ادعاء استحقاق الحكم {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار}، وعلى استبداده وطغيانه {ما أريكم إلا ما أرى}، وعلى إرهابه للمجتمع {لئن اتخذ إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}، وعلى مصادرة حرية الرأي وحرية الاعتقاد {أآمنتم له قبل أن آذن لكم}؟!

بينما تقوم سياسة الحكم الراشد على تعزيز وحدة المجتمع واستقراره {جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة..واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}، وعلى احترام كرامة الإنسان {ولقد كرمنا بني آدم}، وعلى أساس حرية الاعتقاد والرأي {لا إكراه في الدين}، وعلى أساس الشورى في الحكم {وأمرهم شورى بينهم}، وعلى أساس العدل بين الجميع {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، وعلى أساس توزيع الثروة العادل{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}..الخ

وقد تجلى مفهوم حماية السلم الأهلي والاستقرار الداخلي في أوضح صوره في موقف الخليفة الراشد عثمان بن عفان حين رفض رفضا قاطعا قمع الخارجين على سلطته، وأمر من حاولوا الدفاع عنه كف أيديهم وقال (والله لا أكون أول من خلف رسول الله بالدم في أمته) (والله لا يراق بسببي قطرة دم)!

كما سن علي رضي الله عنه سنن الرحمة في الخوارج الذين كفروه فقال (لهم علينا ثلاث ألا نبدأهم بقتال، ولا نمنعهم مساجد الله، ولا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا.. على ألا يسفكوا دما حراما، ولا يظلموا معاهدا، ولا يقطعوا سبيلا)!

وكل ذلك قائم على أساس احترام حرية الإنسان وكرامته وإنسانيته فرادا كان أو مجموعة كما قال عمر دفاعا عن القبطي المصري (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)!

إن حالة السلم والأمن الأهلي تتحقق من خلال :

1- إلغاء كافة قوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية التي أشاعت حالة من الخوف في المجتمعات العربية، حتى افتقد المواطن العربي الأمن والطمأنينة، وصار جهاز الأمن مصدر الرعب والخوف، والعدو الأول للشعب، وقد تجلى ذلك فيما جرى من مواجهات بين الشعب المصري والأمن المركزي، وحالة العداء الشديد التي تراكمت خلال ثلاثة عقود من طغيان السلطة وأجهزة أمنها، حتى أن الشعب المصري لم يعرف الأمن إلا حين انهار جهاز الأمن!

وهو خلل خطير يحتاج إلى إعادة تأسيس كل أجهزة الأمن وهيكلتها من جديد، وتحديد أهدافها ومسئولياتها، لتكون في خدمة الشعب لا في خدمة السلطة!

2- تكريس مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع، وإلغاء ما يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة العامة.

3- وتقرير حق الأقليات الدينية والعرقية في المحافظة على هويتها ولغتها وثقافتها، وتعزيز روح المواطنة والانتماء للأمة لدى الأقليات، حتى لا يشعر إنسان ولا مكون اجتماعي في الدول العربية في حالة من الاغتراب في وطنه، ففي المشتركات الدينية والقومية والإنسانية بين مكونات المجتمع في العالم العربي ما يمكن أن يعزز ويحقق الانتماء للفرد مهما كانت قوميته أو دينه أو ثقافته.

4- احترام حق الأكثرية في المحافظة على قيمها وهويتها، وإنهاء حالة الاستلاب التي تعرضت لها المجتمعات العربية في ظل أنظمة حكم علمانية، تجاوزت على أحق حقوق الأمة في التحاكم إلى شريعتها، وفرضت عليها قوانين تصطدم مع دينها وقيمها وهويتها، وهو ما يقتضي استكمال العمل بالفقه الإسلامي في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، وأن يتصدى لذلك عباقرة القانون والفقه القادرون على الجمع بين معرفة مشكلات العصر ونوازله، وأحكام الإسلام ومقاصده، لحل الأزمة التاريخية والصراع الدائم في المجتمعات العربية منذ سقوطها تحت الاستعمار الغربي إلى اليوم بين النخب العلمانية من جهة والأمة من جهة أخرى، ولن تستقر هذه المجتمعات ولن يتحقق السلم الأهلي ما لم يتفهم الجميع ضرورة احترام إرادة الأكثرية والاعتراف بحقها في العيش وفق قيمها ودينها وهويتها الدينية والقومية، مع ضمان حق الأقلية في التمتع بحقوقها الدينية والثقافية، دون حرمانها من كافة حقوق المواطنة.

خامسا : تعزيز الوحدة والاتحاد بين كل دولة قطرية، والدول العربية المحيطة بها، وتعزيز التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري بينها، للوصول إلى اتحاد بين دول العالم العربي، والاستفادة من تجربة الاتحاد الأوربي، للخروج من حالة الضعف والتشرذم التي وصلت لها الدول العربية في ظل الأنظمة الفاسدة، حيث فرطت بأهم ما كانت تطمح له شعوب العالم العربي من الوحدة والاتحاد والقوة، لاسترجاع حقوقها المسلوبة وعلى رأسها أرض فلسطين والمسجد الأقصى والقدس الشريف.

سادسا : بلورة مشروع سياسي، ورسالة إنسانية يستعيد العالم العربي من خلالها دوره الحضاري على المسرح العالمي، يزاوج بين الهويتين الرئيسيتين للعرب كأمة، وهما الإسلام كدين وحضارة وقيم إنسانية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وكما قال عمر (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، وكما قال ربعي (إن الله بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)، والعروبة كثقافة ولغة وآداب وفنون ووعاء حاضن للإسلام ورسالته للعالمين..

إن العالم المادي اليوم يحتضر بماديته وانحلاله وجنونه، وهو في حاجة للعرب من جديد ليعيدوا للعالم روحه وقيمه الأخلاقية والروحية، وحين تنهض بذلك دولة عربية مركزية، يحكمها نظام حكم راشد، فسيكون لها أكبر الأثر في استعادة العرب لدورهم الحضاري، وإسهامهم في خدمة الإنسانية كما فعلوا من قبل مدة سبعة قرون، كان لهم الفضل على العالم كله وحضارته التي ولدت من رحم الحضارة العربية الإسلامية!

إن كل ما سبق بيانه هو من أهم ملامح وشروط قيام أنظمة حكم راشدة بديلة عن النظام العربي الحالي الذي تعصف به الثورة العربية المجيدة من المحيط إلى الخليج، ونجاح الثورة مرهون بقدرتها على إقامة بديل ناجح يحقق هذه الأهداف المرحلية في:

1- استعادة الإنسان العربي لحريته وكرامته وإنسانيته وهويته.

2- واستعادة الدولة القطرية لسيادتها واستقلالها.

3- واستعادة الشعوب لحقها في اختيار من يمثلها ويعبر عن إرادتها.

4- واستعادة مؤسسات السلطة لهيبتها ومسئولياتها ودورها.

5- واستعادة الأمة لوحدتها وقوتها.

6- واستعادة العرب لشهودهم السياسي والإنساني والحضاري.

وتحتاج الأمة لتحقيق ذلك إلى عقد أو عقدين، لتبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية لتحقيق هدفها الاستراتيجي الذي تتطلع إليه الأمة من عقود وهو أن تعود (أمة واحدة وخلافة راشدة)، لتستأنف دورها على المسرح العالمي من جديد ولتكون {رحمة للعالمين} {وخير أمة أخرجت للناس}، وكما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد سقوط الملك الجبري الذي يتهاوى اليوم حيث قال (ثم ملكا جبريا ثم تعود خلافة على منهاج النبوة)!

وقد فصلت ذلك كله في كتابي (نحو وعي سياسي راشد) وكتابي (تحرير الإنسان)، وكتابي (الحرية أو الطوفان)..

 

 
 
aaa
زيارات إسياس المتكررة إلى إثيوبيا ومآلاتها المستقبلية
خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وشهادات المنصفين من غير المسلمين
رمضان في زمن الكورونا
بعد عام من إغلاق الحدود بين إرتريا والسودان من المستفيد ؟
ملامح الإتفاقية الإرترية الإثيوبية وتطلعات الشعب الإرتري
2024 © حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤتمر الإسلامي الإرتري | By : ShahBiz